أخبار عاجلة
الرئيسية / المقالات / لأول مرة… خفايا عن زيارة الام تريزا الى العراق

لأول مرة… خفايا عن زيارة الام تريزا الى العراق

شهادة حياة
في حضرة التاريخ الايماني قبل ربع قرن
 لأول مرة… خفايا عن زيارة الام تريزا الى العراق

 

الأب نويل فرمان السناطي


(بمناسبة إعلان قداسة تريزا أم الفقراء، ترجع بنا الذاكرة إلى عام 1991 عندما حلّت القديسة ضيفة على بلدنا العراق، فكانت مثلا للرحمة وسط الضيق الذي عاشه شعبنا، وهذه ذكريات لا تنسى.)
بهذه الكلمات قدمت مجلة نجم المشرق الغراء وتصدرها بطريركية بابل على الكلدان، في عددها 88 الأخير من العام المنصرم، قدمت مشكورة مقالي عن خفايا انشرها لأول مرة بشأن خفايا زيارتها إلى العراق. وإذا كان ثمة واقع شمولي مرير، سياسيا واجتماعيا، في أعقاب إحدى حروب الخليج، فهو يبقى بعيدا عن أن يسجل لصالح الواقع الحالي، المتردي قدما على مطية طائفية ومزاعم ديمقراطية، لصالح الجهات المستفيدة إياها. ويبقى الرجاء في غد افضل، حالة طالما نتمسك بها بفضل الناس ذوي الارادة الصالحة، وبلزوم مواكبة ركب المجتمع المدني. مع هذا التعليق أترككم ومع الامنية بقراءة طيبة لموضوع يحمل مخاطبته الوجدانية والروحية المفتردة على مستوى العراق وقراء الموقع البطريركي. وطاب لي أن اضع بالحرف الغامق، عددًا من الاضافات المستجدّة عند إعداده للنشر في الموقع البطريركي.
في منتصف حزيران 1991 حلت الأم تريزا ضيفة رسمية على العراق بعد أشهر من حرب الكويت المنتهية في 28 شباط، وكان بانتظارها جناح بفندق الرشيد، حيث استقبلتها موظفة من شعبنا المسيحي، ستكون فيما بعد شهيدة القصف الصاروخي على قصر الرشيد سنة 1993. لكن الام تريزا قالت: انا راهبة، ومكاني الدير، فتوجهت إلى دير الكلدان- الزعفرانية. وقد أنعم علي التدبير الرباني بأن ارافقها لثلاثة أيام واكون معها في سيارة واحدة.


ذخيرة من الدرجة ب:
أقرّ، ابتداءًا أني كنت اوجه السائق إلى مسارات اطول في تنقلاتنا، لتتعرف من جهة على العاصمة الجريحة وايضا ليتسنى لي ان أختزن ما استطيع من ظلها وأنفاسها، وكنت قد جلبت معي كتابًا عن حياتها، بقلم الأب ألبير أبونا بهدف أن يتزيّن بكلماتها ومعي قلم معدّ لذلك ليصبح عندي كايقونة لامستها انامل طوباوية، ولتغدو الصفحة التي تتوجت بتوقيعها ذخيرة رسمية من الدرجة/ ب. وذلك على وفق ما أخبرني المختصون في ابرشية كالكري للكاثوليك، بأنها كذلك لأنها لامست جسمها، وتصنف ذخيرة الدرجة الاولى ما يكون قطعة من جثمانها الطاهر. فكتبت بانكليزية رشيقة على كتاب سيرتها: (ميستر نويل، أحبب الغير كما الله أحبك، تذكر ان اعمال المحبة هي اعمال سلام. 17 حزيران 1991). كانت تكتب اولاتوغرافات بلا إطراق او برهة تفكير بما ستكتب، ليأتي المضمون بتفرّد وابداع، كأن هناك من أملاه عليها بتلك الانسيابية. فقد كتبت، بنفس التاريخ اهداءا لخورنتي العزيزة السابقة، في كنيسة مار يوحنا المعمذان وراعيها الراحل القس نجيب ككو في الدورة: (الأب العزيز وكل ناس خورنة القديس يوحنا، كونوا قلبا واحدا، ضمن قلب يسوع، وعبر قلب مريم، ليبارككم الرب. توقيع الأم تريزا.) وكان لي فيما قبل، شرف الكتابة عنها مع تألق نجمها في تحقيق لمجلة الف باء سنة 1984 تحت عنوان: لأن الفقراء يزدادون جوعا كلما زادت تخمة الاثرياء، أصبح للكلاب مطاعم خاصة. مفارقة سنرى تطبيقها الصارخ في نهاية هذا المقال. أجل، كان معروفا للملا أن عمل الام تريزا وأخواتها توفـّر لخدمة الجميع بلا تمييز. وعندما كانت تجد حالة صحية صعبة، فكأنما وجدت درّة ارسلها الله إليهم. وكان النهج في بيوتهن تأثيثها بمستوى فقر الناس الذين يخدمنهن، ينتعلن صنادل متواضعة، ولا يخصصن أجهزة التبريد إلا للمخدومين فهم ضيوف شرف من أمثال: فادي وعمر، حسين وجوني وغيرهم.
خلال تلك الايام توثقت لي مع قداستها ألفة لا استحقها، فأعطتني سبحة ثانية معلّقة: ميستر نويل، هذه السبحة حمراء كالحب. وعلى ذكر السبحة الوردية قالت لي الطبيبة المرافقة: لاحظ كيف لا تفارقها سبحة الصلاة. فكان ذلك دعوة من انسانة غير مسيحية لأتأمل سيرة الأم تريزا ليس يوما فيوما بل ساعة فساعة: فإذا بها بين حديث وآخر، بين سؤال وجواب، تعود الى تمتمة الشفاه بسبحتها، لأجدها تتنفس الصلاة تنفسا. وفي بيت لراهبات التقدمة اتخذته ليكون أول دار لمرسلات المحبة، أعدّته لها مجهودات الاخوّة العلمانية الدومنيكية مع أصدقائهم، قادتني الأم الى المعبد وأشارت الى عبارة يضعونها دائما تحت الصليب: (أنا عطشان) موضحة: نريد من خدمتنا أن تكون استجابة لنداء عطش المسيح على الصليب. فقلت لها متودّدا: "ماذر" تريزا، يسعدني أن أخبرك، أني لست فقط موظف بروتوكول رئاسي، بل ايضا خادم- شماس في بروتوكول يسوع المسيح). وهنا سأشارك على هذه الصفحة بما شهدته بروتوكوليا بشأنها كشخص عمل في مراسم الرئاسة.


زيارة رحمة قوبلت بمناورة سياسية:
 مع أن "نجم المشرق" مجلة دينية، إلا ان الحديث عن قديسة وما جرى معها من تداخل سياسي، يصبح بحدّ ذاته شأنا يخص الصحافة المسيحية. هكذا وبعد ربع قرن من زيارة الام تريزا، رأيت أن اكتب مقالا بتفاصيل لم ترد فيما ذكرته في كتاب الاب منصور المخلصي عن سيرتها، ولا في مقابلات وذكريات أخرى أبرزها في الشقيقة مجلة الفكر المسيحي. تفاصيل من الطرف الرئاسي أزعم أنها لأول مرة تنشر عن الحدث، وكنت شاهدا لها ومعنيا في بعض مجرياتها.


ظروف الزيارة: غداة حرب الكويت، لم يكن ثمة طيران مدني، وكانت اوصال العاصمة مهشـّمة والبلد في عزلة دولية خانقة. فعبرت الام تريزا عن رغبتها في زيارة العراق، كواحد من البلدان التي زارتها وهي خارجة من الحرب أو خلالها، ونذكر منها لبنان، وكان الهدف إنقاذ ما يمكن انقاذه من الضحايا العزل. عندئذ رأى الطرف الرسمي، في ذلك فرصة سانحة لبدء الخروج عن العزلة الدولية. فتم التنسيق لاستقبالها عن طريق الصحة كوزارة مختصة مع طبيبة مرافقة، وتوفر لقدومها مطار الحبانية العسكري وتم تكليفي بمرافقتها كطرف رئاسي، لتطويق تنقلاتها للايام الاولى، كمرشحة من الوزارة لاحتمال أن يقابلها رئيس البلاد. وقد قالت لي، وهي تضمّ اليدين وتنحني على الطريقة الهندية، أنها تتطلع لمقابلة رئيس البلاد، كما هو شأنها في زياراتها العالمية، فقلت لها: وأنا أيضا أتطلع أن يتحقق لك ذلك يا أم تريزا…
ولكن عندما قصدت الدائرة بعد أداء الواجب اليومي، كان بعض الطائفيين في المحيط الرئاسي، يرمقني بنظرة تشفـّي ويقول بإهمال وتجاهل ان فروسيته الوظيفية تؤكد له أن "عمّنا" لن يستقبلها. وهكذا كان بالفعل، إذ في اليوم الثالث، جاء هامش "العمّ" على مذكرة وزارة الصحة، بردّ دبلوماسي وشبه تكريمي، إذ أوعز بأن يستقبلها نائباه بدلا عنه، فحصل ذلك. وكانت الأم مرتاحة من الزيارتين والدعم الذي لقيته لإنشاء إرساليتها، واحتفال بمقدمها رئيس المكتب، وهرع الى أخذ الصور معها، وقال لها، يا أم تريزا، أنا أعتبرك، كوزيرة الصحة العالمية. فيما كنت امارس مهنية المرافق فحسب بدون أن أظهر، لأسباب متشابكة، شيئا من مكانتها المرموقة في قلبي. ولدى خروجها، كانت كعادتها توزع الايقونات العجائبية، وأعجبني كيف كان أفراد الحمايات والموظفين يتلقون الأيقونات باحترام واهتمام. ثم ودعت الأم القديسة وعدت الى العمل لأتسلـّم نوبتي في الخفارة.


الصعقة: كل شيء حتى الان يعدّ طبيعيا ومبررا حتى في مجال عدم استقبال رئيس البلاد لها. لكن حدث في خفارتي حال عودتي، ما أحسبه تسويقا رئاسيا للزيارة لهدفين مزدوجين: أن يردّ الرئيس الصاع صاعين إلى الغرب "المسيحي" الذي استهدفه في حرب الكويت؛ ومحاباة الاوساط المعنية بالحملة الايمانية. فبينما بقيت الام تريزا لزيارة الاحياء الشعبية في بغداد وكربلاء بحثا عن الاطفال الاكثر حاجة للرعاية، وكنت من جانبي في مكتب الخفارة، إذا بالهاتف يرنّ ومعه هرع أحد افراد الحماية، ليكون المطلوب أن نعمل فورًا على تهيئة مقابلة رئاسية مع شاب يقيم بأحد الفنادق الشعبية في بغداد الجديدة. فأخذناه إلى فندق الرشيد، حيث جاء ضابط من حماية الصف الأول، ليأخذه الى إحدى المزارع الرئاسية. ولبثنا هناك، حتى أعيد الشاب اليعربي الاردني من المقابلة، بعد ساعة ونيف، ومعه ضابط الحماية عينه والمعروف باسم الحجي، ومعهما سيارة (شبح) مارسيس بلون صحراوي، وتعليمات من ديوان الرئاسة أن يحلّ الشاب وجماعته ضيفا في جناح رئاسي بفندق قصر الرشيد، ويقيم فيه طوال العيد، المصادف في اليوم التالي، لحين تسجيل السيارة واكتمال اوراقها. وسرعان ما حلـّق حول الحجـّي الصحافيون الاجانب، إذ عرفوه، مستفسرين عن الأمر فقال: إن هذا الاخ أهدى عمّنا مهرة عربية أصيلة بشهادة موثقة، وعمّنا، بالمقابل، أهداه هذه المهرة. هذا كان الترف الذي أتخم به شاب أهدى الرئيس فرسا، فيما كانت الأم تريزا، في البلد إياه، تلملم البائسين من أزقة العراق لترعاهم بعطاءات المحسنين.
وبعد، كلما افكر في المفارقة الصادمة هذه، لا يسعنى مقاومة التفكير، أن ذلك كان رسالة كبرياء من جملة رسائل موجهة إلى الدوائر الغربية لما استهدفته في حربها التدميرية من عقاب لنظام العراق.. أما إن كانت المفارقة هذه التي شهدتها في اليوم عينه، من باب المصادفة فالجسامة أعظم. ويبقى مرور شهود الايمان في حياة البشر، بلسما للجراح للمستعدين له وحدثا عابرا لغير المبالين.

 

في الصورة الاخت بنينيا شكوانا مرافقتها عن راهبات الكلدان، والاخت نجلة من رهبانية التقدمة التي اتخذت الارسالية أحد مبانيها مقرا لها

 

أهداء خطي الى كاتب المقال – الاب نويل- والى خورنة كنيسة مار يوحنا المعمذان في الدورة بغداد

 

في المعهد البطريركي الكهنوتي، لجيل مطلع التسعينيات

 

Gilles Leblanc توقيع كاهن كالكري الاب جيل لوبلان على لوحته للام تريزا، صفحة غلاف مجلة لابرشية المدينة

 

 مع الاخوة الدومنيكية العلمانية ضمن حملتها لتهيئة المبنى لإرسالة راهبات المحبة

 

مع الاباء الدومنيكان الأب يوسف عتيشا، الأب (المطران يوسف توما) الأب جودت القزي والأب نجيب موسى ميخائيل ويظهر في الصورة، الاخ فخري خلف من الاخوة الدومنيكية العلمانية

كاتب المقال أ. نويل مع الام تريزا:  طويل القامة بجانبها، لكنها هي العملاقة

رسم رمزي معبر لتشييع الام تريزا بريشة الفنان الكلداني وسام مرقس

عن Yousif

شاهد أيضاً

مسحة المرضى، سرّ من أجل الحياة

مسحة المرضى، سرّ من أجل الحياة الاب أدّي بابكا راعي كنيسة مار أدّي الرسول في …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.