أخبار عاجلة
الرئيسية / المقالات / التنشئة الكهنوتيَّة حسب مجموعة قوانين الكنائس الشرقية – الجزء الأول

التنشئة الكهنوتيَّة حسب مجموعة قوانين الكنائس الشرقية – الجزء الأول

الاب سالم ساكا


مقدّمة:
نقصد بالتنشئة الكهنوتية: مرحلة الإعداد والتحضير والتهيئة الروحيَّة لرعاة الكنيسة وخدّامها (الشمامسة الإنجيليين، الكهنة والأساقفة)، التي يجب أنْ تسبقَ الشروع في تأدية خدمتهم الرعوية. فالتنشئة الفلسفية، اللاهوتية والثقافية لرعاة وخدّام المستقبل، تؤهّلهم وتجعلهم جديرين للعمل الجادّ والخدمة. كما هو لابدّ منه في هذه المرحلة التحضيرية أيضاً، الإهتمام بالتعرُّف على أبعاد رسالة رعاة المستقبل والنشاطات الكنسيَّة الأخرى، ومدى إتّساع مفهوم الخدمة الرعوية وميدان عملها، ودراسة الطبيعة البيئية لموقع الرسالة والخدمة. فيما يلي نعرض بعض ملامح وأفكار خطوات التنشئة اللازمة للخدمة الرعويّة.

 

1- ضرورة تنشئة الراعي:
يُعتبر إعداد رعاة الكنيسة وخدّامها وتكوينهم روحياً ولاهوتياً وإنسانياً أمراً ذو أهميَّة بالغة، لأنَّ هذا الإعداد يساعدهم على إدراك وفهم أبعاد ما سيُقدِّموه من خدمة، ومعرفة كيفية القيام بها، والتدرُّب العملي على ذلك. في الواقع يتوقّف نجاح أي خدمة رعوية على مدى إعداد وتأهيل الراعي لها، كما يرتبط بمدى إيمانه واستعداده وتجاوبه الشخصيّ، وتجدُّده المستمرّ، وحبّه الفيّاض للقيام بكلِّ الواجبات والأنشطة الرعوية، وتضحيته السخيَّة في تحمُّل متاعب وأعباء رسالته هذه.
فيما سبق دعا المجمع الفاتيكاني الثاني إلى ضرورة الحرص في الإعداد الدقيق للرعاة، ويتحدَّث عن المجالات المتنوّعة الخاصّة بهذا الإعداد: "إنَّ تلك العناية الرعائيَّة التي يجب أنْ يصطبغَ بها تكوين الرعاة والخدام وتنشئتهم، تتطلَّب أيضاً إعدادهم الدقيق فيما يتعلَّق خاصّة بالخدمة المقدَّسة، لاسيما بتلقين التعليم المسيحي والوعظ وبالشعائر الطقسيَّة ومنح الأسرار، وأعمال المحبّة، وبواجب السعي إلى كلِّ مَنْ كان في الضلال، أو كان بعيداً عن الإيمان، وبسائر المهامّ الرعائيَّة. ويجب الحرص أيضاً على تثقيفهم في فنّ قيادة النفوس، الذي يجعلهم قادرين على توجيه أبناء الكنيسة إلى حياة مسيحيَّة كاملة الوعي ورسوليَّة، وإلى القيام بواجبات حالتهم" (مرسوم في التنشئة الكهنوتية، العدد/19). كما أكَّد البابا القديس يوحنا بولس الثاني في إرشاده الرسولي، على أهميَّة تنشئة وتكوين رعاة المستقبل من كهنة ورهبان وخدّام قائلاً: "لاشكّ أنَّ الكنيسة في مواجهة ما يترتب عليها من حمل الإنجيل إلى البشرية، تعتبر تنشئة كهنة المستقبل، الإيبارشيين منهم والرهبان، مهمّة على كثير من الخطورة والدقّة، تستمر على مدى حياتهم، دعماً لقداستهم الشخصيَّة في الخدمة الكنسيّة، وتجديدهم الدائم في التزامهم الرعوي" (أعطيكم رعاة، العدد2).
ينبغي أنْ يشملَ هذا الإعداد الجانبين النظري والعملي لأبعادِ الخدمة الرعوية، وذلك بدراسة المواد اللاهوتيَّة ومتابعة البحث الأكاديمي في المعاهد الكنسيّة، والممارسة والتدريب العملي في حقل الخدمة وفي ميدان الأنشطة الرسولية بالرعايا والمؤسَّسات الكنسيّة: "ولما كان على الطلبة أن يتعلَّموا فنّ ممارسة الرسالة لا نظرياً فحسب بل عملياً أيضاً، وأن يكون في وسعهم التصرُّف على مسؤوليَّتهم الخاصة وبالاشتراك مع الآخرين، وجبَ أنْ يتدرَّبوا على العملِ الرعائي، في أثناء الدراسة وكذلك في وقت الإجازات، بواسطة أعمال ملائمة" (التنشئة الكهنوتية، العدد/21). لذا يجب أن يتضمَّن برنامج تنشئة الرعاة مواداً روحيَّة ولاهوتيَّة ورعويَّة وإنسانيَّة، على أنْ يستمرَّ هذا البرنامج ويتواصل من خلال التنشئة الدائمة.

 

2- التنشئة الروحيَّة للرعاة:
التنشئة الروحيَّة هي نقطة الانطلاق لكلّ عمل رعوي، وهي أساس النضوج الشخصي والفكري، وجوهر وسرّ نجاح الخدمة الرعويَّة. إذ تُساعد التنشئة الروحيَّة هذه الرعاة والخدّام وأبناء رعاياهم على تنمية وتجديد حياتهم الروحيَّة، وتُعزِّز نهج حياتهم وسلوكهم وفقاً لروح وتعاليم الإنجيل، وتُدَعِّم ممارستهم لفضائل الإيمان والرجاء والمحبَّة. كما تعمل على تنمية روح الصلاة في حياتهم، وغرس الغيرة الرسوليَّة في قلوبهم، وتفانيهم في جذب جميع البشر للمسيح الربّ، الفادي والمخلص "يجب العمل بإلحاح على تشجيع الأعمال التقوية الموحى بها من قبل الاستعمال الجليل في الكنيسة، غير إنَّه يجب الحرص على ألا تقتصر التنشئة الروحيَّة على تلك الأعمال وحدها، أو على العناية بالعاطفة الدينية فقط، إنِّما يجب على الطلبة، رعاة المستقبل، أن يتعلَّموا الحياة وفق روح الإنجيل وأنْ يرسخوا قدماً في الإيمان والرجاء والمحبة، لكي يكتسبوا بممارسة تلك الفضائل روح الصلاة، وينالوا قوة وحصانة لدعوتهم، وتتعمَّق سائر الفضائل لديهم، وتنمو في قلوبهم الغيرة لربح جميع الناس للمسيح" (التنشئة الكهنوتية، العدد/8).
إنَّ جوهر الخدمة الرعويّة يكمن في تقوى الراعي أو الخادم ومحبَّته، وإكتسابه حياة روحيَّة ثريَّة بالنعم الإلهيَّة، وممتلئة بمواهب الروح القدس (أعمال الرسل 6/3). لأنَّ نوعيَّة الحياة الروحيَّة التي يحياها الراعي هي ذات نوعيَّة الحياة التي يستطيع أنْ يُعلّمها ويعرضها للآخرين: "من ثمارهم تعرفونهم. أيثمر الشوك عنباً، أم العليق تيناً؟ كل شجرة جيدة تحمل ثمراً جيداً، وكل شجرة رديئة تحمل ثمراً رديئاً" (متى 7/ 16-17). لذلك، إنْ لم ينم الراعي يومياً ويكبر في الحياة الروحيّة، ويزداد في النعم والمواهب الإلهيَّة، ويتجدَّد داخلياً، فلن يكون قادراً على بثِّ روح الله في الجماعة التي يخدمها.
من جهتها، أكدَّت مجموعة قوانين الكنائس الشرقية الكاثوليكية على ضرورة التنشئة الروحيَّة للرعاة وأهميَّتها، فقد نصَّ القانون/346 في بنديه 1 و2، على ما يلي: "يجب تكوين الراغبين في الخدمات المقدَّسة على تنمية ألفة حميمة مع المسيح في الروح القدس، والبحث عن الله في كلِّ شيء، فيحرصوا بدافعٍ من محبَّة المسيح الراعي، على إكتساب جميع الناس لملكوت الله ببذل حياتهم نفسها"؛ "عليهم أن يستمدّوا كلّ يوم وقبل كلّ شيء الطاقة لحياتهم الروحيَّة والعزم لعملهم الرسولي، من كلمة الله والأسرار (المقدسة)". أمّا الوسائل التي تنمّي عند طالب الكهنوت البُعد الروحي فهي: السماع اليومي لكلمة الله؛ المشاركة في حياة الأسرار؛ التأمّل اليومي في الكلمة وتفسيرها على نور الآباء؛ المشاركة الدائمة في الليترجية الإلهية؛ إقامة الصلوات الطقسية؛ الإرشاد الروحي؛ قبول سرّ التوبة بتواتر؛ التقوى المريمية؛ أعمال التقوى وفقاً لتقاليد الكنيسة المتمتعّة بحكم ذاتي؛ الفضائل المسيحية والإنسانية الأخرى التي ترفع من شأن خدّام المسيح ورعاة كنيسته.
جديرٌ بالذكر، أنَّ التنشئة الحقيقيَّة للخدمة الرعوية لا تنحصر في مجرَّد متابعة الدراسات اللاهوتيَّة والعلوم الدينية، أو التحضير لممارسة الأنشطة والخدمات الرعوية، أو معرفة كيفية القيام بالأعمال الرسوليَّة والإلمام بطرق تنفيذ المشاريع الخيرية. ولكنَّها ترتبط أولاً، وقبل كلّ شيء، بتنشئة رعاة وقادة وخدّام ناضجين روحياً، ثابتين ومبنيّين ومؤسَّسين على صخرة الإيمان القويم، وتعاليم الأناجيل، وتقليد الآباء الرسل، وقادرين على إعلان محبّة الربّ يسوع في العالم، والبشارة بالإنجيل بين البشر. لذلك، يجب على هؤلاء الرعاة والقادة والخدّام أن يمتلئوا، أولاً، من نعم ومواهب الروح القدس، وأن يسلكوا في تقوى وخشوع الربّ، وذلك قبل أن يتجرّؤا على قيادة النفوس، وتعليمها ورعايتها.

 

3- التنشئة اللاهوتيَّة للرعاة:
إستناداً لما نصَّت عليه مجموعة قوانين الكنائس الشرقية الكاثوليكية بأن لا يستطيع الرعاة ممارسة الخدمة الرعوية بصورة صحيحة، قبل أن يستكملوا تنشئتهم اللاهوتيَّة، ويُلمّون بجميع الدراسات العقائدية واللاهوتية والعلوم الدينية المختلفة. ففي فترة التنشئة هذه، عليهم أنْ يتعمَّقوا في معرفة ودراسة الكتاب المقدّس، علم الليترجيا كينبوعٍ ضروري للعقيدة وللروح المسيحيَّة الحقّ، التاريخ والقانون والعلوم الكنسيّة الأخرى (القانون/350). هذه الدراسات تساعد رعاة المستقبل لكي يفهموا جيّداً سرّ الكنيسة، ويعرفوا أسلوب الخدمة بروح المحبَّة والشركة مع الآخرين، ويتعلّموا كيف يُنكرون ذواتهم، ويقتدون بالربّ يسوع، الراعي الصالح.
لتحقيق هذه التنشئة تأسَّست في جميع أنحاء العالم الكليات الإكليريكية والجامعات والمعاهد اللاهوتية، التي تهدف إلى تربية وتكوين وإعداد قادة ورعاة وخدّام الغد. إذ تقوم هذه المعاهد الكنسيّة بالإعداد اللاهوتي والرعوي للمرشَّحين للكهنوت، وذلك وفقاً لمنهجٍ واضح، دُرس بعناية فائقة، تتمّ من خلاله دراسة الموضوعات اللاهوتية والكتاب المقدّس والعلوم الكنسيّة، حسب خطّة زمنية مُعيَّنة، قد تمتدّ لسنوات عديدة "في ما يخصّ المهيّئين للكهنوت، تشمل دروس الإكليريكيّة الكبرى، الدراسات الفلسفيّة واللاهوتيّة التي يمكن إتمامها إمّا على فترات وإمّا متّصلة؛ على أنْ تشملَ هذه الدروس ستّ سنوات كاملة لا أقلّ، بحيث تعادل المدّةُ المخصّصة للدراسات الفلسفيّة سنتين كاملتين والمدّة المخصّصة للدراسات اللاهوتيّة أربع سنوات كامل" (القانون/348 –البند1).
من هنا يجب على الطلبة، رعاة المستقبل للكنيسة وخدّامها، أن يكونوا مُتشبّعين بسرِّ الكنيسة، ليؤدّوا شهادة تلك الوحدة التي تجذب البشر إلى المسيح وأنْ يعملوا في وحدة مع إخوتهم ليعرفوا المشاركة بقلبٍ متَّسع في حياة الكنيسة كلّها. كما يجب تلقينهم العلوم اللاهوتيَّة على ضوء الإيمان، وتحت سلطة الكنيسة التعليميَّة، بحيث يستقي الطلبة بدقة العقيدة الكاثوليكية عن الوحي الإلهي، وينفذون إلى أعماقها، ويجعلون منها غذاء لحياتهم الروحيَّة الخاصّة، ويتمكَّنون من إعلانها وعرضها والذود عنها في خدمتهم الكهنوتية (القانون/347).
لا يمكن الاستغناء إذن عن التنشئة اللاهوتية للرعاة، ذلك أنَّها من متطلّبات العقل الإنساني الذي يسعى لفهم الإيمان وتعقّله، واكتساب حكمة وفطنة تقود إلى معرفة ومحبَّة الله والارتباط به: "إذا كان على كلِّ مسيحي أن يكون مُستعدّاً للذود عن الإيمان وإقامة الدليل على ما نحمله من الرجاء" (1 بط 3/15)، فكم يجب على المرشَّحين للكهنوت وعلى الكهنة أن يقيموا وزناً للتنشئة الفكرية في مجالات التربية والممارسة الرعوية. ولا غرو، فخلاص إخوتهم وأخواتهم يُلزمهم تحصيل معرفة عميقة للأسرار الإلهيَّة.
يقول البابا القديس يوحنا بولس الثاني في إرشاده الرسولي: "إنَّ الأوضاع الراهنة ممهورة بطابع عميق من اللامبالاة الدينية، وبشيء من الريبة والشكّ في قدرة العقل على بلوغ الحقيقة الراهنة والشاملة، وبالمعضلات والأسئلة الجديدة الناجمة عن الكشوف العلميَّة والتكنولوجيَّة. كلّ هذا يستدعي مستوى عالٍ من التنشئة الفكرية يتيح للكهنة، في مثل هذه القرائن، أنْ يُبشِّروا بإنجيل المسيح الذي لا يتغيَّر، ويُبيّنوا مصداقيَّته تجاه العقل البشري ومتطلّباته المشروعة" (أعطيكم رعاة، العدد/51). ويُكرِّر البابا نفسه نداءَه إلى المسؤولين عن التنشئة الكهنوتية لكي يبذلوا أقصى ما في وسعهم من أجلِ تأمين تكوينٍ فلسفيٍّ جيدٍ لرعاة وخدّام المستقبل، والاهتمام بالإعداد اللائق للمعلّمين والمدرسين، الذين يخدمون بالمعاهد الكنسيّة والكليات الإكليريكية، حتى يقوموا بمهامّهم خير قيام: "وأتوجّه بالفكر أيضاً إلى الذين يضطلعون بمسؤوليَّة التنشئة الكهنوتية، الأكاديمية والرعائية، ليؤمّنوا، بتنبيه خاصّ، التنشئة الفلسفية للمزمعين أنْ يُبشروا بالإنجيل أهل زماننا، وخصوصاً للمزمعين أنْ يتكرَّسوا لتعليم اللاهوت والبحث. وليجهَدوا في أن يقوموا بعملهم في ضوء تعليمات المجمع الفاتيكاني الثاني والإجراءات المتّخذة بعد المجمع، وهي تنوّه بالواجب الملح والملزم للجميع في المساهمة في نقلِ حقائق الإيمان نقلاً صحيحاً وعميقاً. ولا ينسَ أحد المسؤوليَّة الباهظة في تأمين تنشئة إعداديَّة ومؤاتية للجسم التعليمي المُعد لتعليم الفلسفة في الإكليريكيات والمعاهد الكنسيّة. ولا بدّ من أنْ تتضمَّنَ هذه التنشئة تأهيلاً علميّاً مؤاتياً، وتُنظّم بطريقة منهجية وتُقدِّم للطلاب التراث العظيم النابع من التقليد المسيحي وتُرفق بما يلزم من التمييز حيال الحاجات الراهنة في الكنيسة والعالم" (الإيمان والعقل، العدد/105).

 

 يتبع…

عن Yousif

شاهد أيضاً

مسحة المرضى، سرّ من أجل الحياة

مسحة المرضى، سرّ من أجل الحياة الاب أدّي بابكا راعي كنيسة مار أدّي الرسول في …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.