إستنادا الى مخطوطة كلدانية قديمة كتبها مار سرجيوس (سركيس) أسقف آذربيجان تحكي قصة حياة الربان هرمزد الفارسي و الربان برعيتا التي ترجمها الى اللغة الأنكليزية السير أرنست ألفريد واليس بدج ( E. A. Wallis Budge ) وطبعت في لندن عام 1902 وهي تحت عنوان
The Histories of Rabban Hormizd The Persian and Rabban Bar-Idta
وكان الأسقف سركيس الآذربيجاني كان قد كتبها في القرن السابع عشر الميلادي إستنادا الى مخطوطة أقدم منها كتبها الأبا شمعون تلميذ يوزاداق رفيق الربان هرمزد ومعاصره . وهي مخطوطة ضخمة بمجلدين ، تضم سيرة حياة هذين الراهبين غير أني أقتبس منها أهم ما جاء في سيرة الربان هرمزد .
الربان هرمزد :
ولد الربان هرمزد في أواخر القرن السادس الميلادي في مدينة بيث لاباط في إقليم الأهواز في منطقة فارس من أبوين تقيين هما يوسب و تقلا ولهذا سمي بهرمزد الفارسي ، وعندما بلغ الثانية عشر من عمره دخل المدرسة ونبغ في المواد الدينية و اللغوية وعلوم الكتاب المقدس ، فخلال 6 سنوات ختم عن ظهر قلب كتاب المزامير ( داويثا ) ، وبعد أن انهى دراسته الدينية شعر برغبة قوية في حياة التنسك ، وفي أحد الأيام وهو نائم في غرفته تراءى له في الحلم السيد المسيح ، قال له : ” لا تخف أيها الرجل الصالح … إذهب وأنا معك ، وأنا أرشدك ، ولن يؤذيك أحدا … ” فترك والديه وعمره آنذاك لم يتجاوز العشرين عاما عازما على زيارة الأماكن المقدسة في أورشليم و مصر . وبعد مسيرة 37 يوما من الترحال و صل مدينة ( بيث حالا ) ، وهناك إلتقى ثلاثة رهبان من دير ( برعيدتا ) هم الأبا ياقو من ( كفر زمار ) ، ومار يوحنا من (شمرا ) ومار حنانيشوع من حدياب (أربيل ) وقد فرحوا به كثيرا وإستبشروا فيه خيرا ، فرافق هرمزد هؤلاء الثلاثة الى ديرهم ( دير الربان برعيتا ) الواقع بالقرب من نهر الخازر شمال شرق كرمليس في منطقة نينوى ، وقد إستقبله الربان سوريشوع الذي كان رئيسا للدير آنذاك وألبسه الأسكيم الرهباني ، وبعد أن قضى ردحا من الزمن في دير الربان برعيتا غادر الربان هرمزد الى دير ريشا ( دير مار أوراهام الكبير ) في منطقة جبل مقلوب وكان يقطن فيه كل من يوحنا الفارسي ( يوحنا الديلمي – الذي أسس دير نقورتايا ) وألأنبا أدونا و الربان يوزاداق و الأنبا شمعون والربان إيشوع سوران . وإثر جفاف عين الماء القريبة من دير مار أوراهام الكبير والتي كانت مصدر الشرب للرهبان ، قرر الرهبان مغادرة الدير ، فالربان يوزاداق ومار أدونا والأبا شمعون ذهبوا الى جبل قردو ، أما الربان هرمزد والربان أوراهام قررا الذهاب الى جبل عذري بالقرب من ( ألقوش) ووجدوا هناك كهفا وبالقرب منه ينبوع ماء ( عينا د قديشا ) .
الربان هرمزد يتخذ من الكهف صومعة له:
إستقر الربان هرمزد في ذلك الكهف أما الربان أوراهام فلم يمكث سوى ثلاثة أيام غادر بعدها الى منطقة بالقرب من نينوى حيث كان يوجد دير آخر هناك ( على الأرجح هو دير مار أوراهام بالقرب من باطنايا ) . وعندما إنتشر خبر قدوم الربان هرمزد تقاطر الناس إليه من ألقوش و القرى المجاورة وأبدوا إستعدادهم التام لمساعدته في بناء الدير له في ذلك الموقع ، ففرح بقدومهم و شكرهم على إبداء المساعدة ، وكان أهالي القرى القريبة يأتون إليه يطلبون شفاعته لشفاء المرضى ، وفي إحدى المرات جاء لفيف من سكان بيث قوبا (باقوفا ) لزيارته ومعهم أحد المرضى لكي يصلي عليه الربان طلبا للشفاء ، غير أن المريض توفي في الطريق ، فرفض الوالدين دفنه قبل ان يراه الربان هرمزد ويكشف عليه ، وعندما وصلوا الى الكهف وأعلموا الربان بما حدث ، قال لهم حسنا فعلتم بعدم دفنه ، فهاتوا الصبي المتوفي ، فبدأ الربان بالصلاة داعيا الله و يسوع المسيح أن يشفيه ، فبدأ الصبي (المتوفي ) بالحركة و فتح عينيه ، فكانت تلك معجزة أدخلت البهجة و الفرح في قلوب الباقوفيين .
الصراع بين النساطرة و اليعاقبة
وكان في تلك الفترة ( القرن السابع الميلادي ) صراع كبير بين النساطرة وأصحاب الطبيعة الواحدة ( اليعاقبة ) ، كل منهما يسعى لنشر عقيدته في المنطقة ، وكان في شمال ألقوش دير (بسقين) لليعاقبة وكان رهبانه في خلاف عميق مع أبناء ألقوش ذوي العقيدة النسطورية ، فجاء ذات ليلة عشرة من رهبان دير بسقين وصعدوا خلسة الى حيث يسكن الربان هرمزد وأشبعوا الربان هرمزد ضربا مبرحا حتى أدموه ، غير ان الألقوشيين برئاسة جبرائيل ( الرجل الثري و المقتدر) لقنوا هؤلاء الرهبان درسا بليغا ، إلا أن الرهبان اليعاقبة لم يهدأ لهم بال ، فخططوا بالأنتقام .. فجاءت ذات يوم إمرأة مع إبنها المريض الى دير بسقين تطلب الشفاء لأبنها ، غير أن رهبان بسقين قالوا لها ، بأن هناك رجل يسكن في كهف بالقرب من ألقوش له قدرة في شفاء المرضى ، وعرضوا عليها مرافقتها الى ذلك الكهف ، فذهب خمسة من الرهبان مع تلك المرأة وأبنها متجهين نحو الكهف الذي يسكن فيه الربان هرمزد ، وقبل أن يصلوا الكهف بمسافة قصيرة قاموا بالأعتداء عليها ومن ثم قتلها ورموها أمام الكهف أما إبنها فكان فيه رمق من الحياة ، وأبلغ هؤلاء الرهبان أمير الموصل (عتبة بن فرقد السلمي الذي تولى أمر الموصل ع
ام 637 م ) متهمين الربان هرمزد بقتلها فغضب الوالي غضبا شديدا وذهب للحال مع مرافقيه وشلة من الجند للوقوف على تفاصيل الحدث ، فعندما وصلوا هناك وجدوا المرأة ميتة أما الأبن فكان لا يزال حيا ، فقصى للوالي بما فعل هؤلاء الرهبان الخمسة بوالدته . إلا أن الوالي لم يقتنع بما قاله الصبي ، فبدأ بضرب الربان هرمزد ومعاقبته ، وكانت جموع من ألقوش قد جاءت الى الكهف في الوقت الذي وصل فيه الوالي ، فقالوا له : ” أيها الأمير لا يجوز معاقبة الربان قبل أن تكتشف الحقيقة … ” ، فقال لهم وكيف لي أن أكتشف الحقيقة و المرأة مقتولة ؟ ” فقال جبرائيل : ” أيها الأمير إسأل الربان هرمزد أن يصلي عليها ، فسوف تشفى … ” ، فقام الربان هرمزد بالصلاة قائلا : ” إليك أيها الجسد الميت ، بقوة سيدنا يسوع المسيح ، أطلب منك أن تحيا و تقف على أقدامك .. ” ، فنهضت المرأة في الحال وبدأت تتكلم بما حدث ، وسط ذهول الأمير و مرافقيه وكل من كان حاضرا بهذه المعجزة .
الربان هرمزد يشفي شيبان إبن أمير الموصل
وفي أحد الأيام أصاب شيبان بن عتبة بن فرقد السلمي مرضا عضال عجز الأطباء من شفاءه ، فنصحه المقربون منه أن يأخذ إبنه الى الربان هرمزد ، الذي له قدرة فائقة في شفاء المرضى ، فقام الأمير و أصدر أمرا الى جنوده لتهيئة قافلة إستعدادا للذهاب الى حيق الربان هرمزد على وجه السرعة ، وقبل ان تصل القافلة الى ألقوش لفظ ( شيبان ) أنفاسه الأخيرة و توفي ، فحزن الأمير ومن معيته حزنا شديدا ، فجاء جبرائيل الألقوشي الى الأمير بعد أن علم بالأمر ، وقال للأمير لا تحزن ولا تبكي ، فإن بصلاة الربان هرمزد فإن إبنك شيبان سوف يشفي … ” ، وعندما إلتقوا الربان هرمزد وأبلغوه في الأمر وبما حدث ، قال لهم : ” هاتوا لي إبن الأمير … ” ، فبدأ الربان هرمزد بالصلاة قائلا : ” بإسم سيدنا يسوع المسيح أأمرك أن تسترجع قواك وأن تنهض في الحال .. ” ، فبدأ الجسم الولد بالتحرك ، فكرر الربان طلبه قائلا : ” إنهض أيها الولد ، فإن الموت قد فارقك … ” ، فبدأ شيبان بفتح عينيه ثم نهض وأخذ يتكلم ، فغمر الأمير والحضور فرح عظيم شاكرين الربان هرمزد ، وقال الأمير للربان : ” رغم إني بعيد عن الحقيقة ، أطلب منك أن تمنحنا معموذية سيدك لكي ننال المغفرة ….وبنعمة السيد المسيح ان نعيش ” ( ص 407 ) ، فقام الربان بالصلاة و بصب الماء على رؤوس الأمير وإبنه و المرافقين .
بناء الدير
ومكافأة للربان هرمزد قام أمير الموصل بمنحه ثلاث وزنات فضة مساهمة منه لبناء الدير وكان ذلك في حدود عام 640 م في عهد الجاثليق إيشوعياب الجدالي ( 628 – 647 م ) ، كما تبرع رجل ثري من قرية بيث قوبا ( خوداهوي بن شبحي ) بسبعة وزنات من الفضة وكان لأبناء ألقوش والقرى المجاورة جهدا كبيرا سواء في المادة أو العون في بناء هذا الدير العتيد وكذلك ساهم في البناء أيضا خمسون طالبا من مدرسة إيثالاها في نوهدرا – دهوك – الذين إنضموا الى الحياة النسكية مع الربان هرمزد ، وقد إستغرق البناء سبع سنوات .
وفاته
وبعد حياة طاهرة و مقدسة توفي الربان هرمزد عن عمر ناهز السابعة و الثمانين عاما ودفن في ديره ، وقبره لازال قائما في كنيسة الدير يزوره المؤمنون من كل حدب و صوب .
يحتفل بعيده في يوم الأثنين الأسبوع الثالث من عيد القيامة
للدير اهمية خاصة في تاريخ كنيسة المشرق فقد كان مقرا لها للفترة من عام 1497 ولغاية العام 1804 م ويضم أضرحة تسعة من بطاركة كنيسة المشرق
حبيب حنونا