الثاني من إيليا:
من التمرد والعصيان إلى التوبة والغفران
الأب ريبوار عوديش باسه
قراءات الأحد الثاني من موسم إيليا:
الأولى: من سفر اشعيا (٣٠، ١٥ ـ ٢٢) تحثنا على السير بحسب تصميم الله.
الثانية: من الرسالة الثانية إلى اهل تسالونيقي (٢، ١٥ ـ ١٧؛ ٣، ١ ـ ٥) تحذّرنا من البطالة وتدعو إلى العمل والفطنة.
الثالثة: من إنجيل متى (١٣، ١ ـ ٩) تنقل لنا مثل الزارع الذي يدعونا إلى أن نكون أرضاً جيدة، اي نستقبل الزرع – الكلمة ونجسّدها في تفاصيل حيانا اليومية.
تفسير نص القراءة الأولى (اش ٣٠، ١٥ ـ ٢٢) وتأوينه:
كل إنسان يمر بمراحل مختلفة وخبرات متعددة. بعضها تبعده عن الله، وبعضها الآخر تجعله أن يدرك بأن حياته من دون حضور الله ومن دون الجانب الروحي تفقد ركناً اساسياً. وبفقدان ذلك الركن يفقد المرء معنى وجوده. وبهذا الخصوص يسرد الكتاب المقدس لنا تاريخ الشعب الإسرائيلي ليقدمه كنموذج لنستفيد من خبرته وقصته مع الله خالقه ومخلصه. وهذا ما يفعله النبي اشعيا أيضاً في الإصحاح الثلاثين من سفره حيث يبين كيف أن الشعب الإسرائيلي بابتعاده عن الله وبتمرده عليه وبعصيانه لتعاليمه يجلب على نفسه الويلات (لاحظ تكرار كلمة “الويل” في هذه الفصول: اش ٢٨، ١؛ ٢٩، ١. ١٥؛ ٣٠، ١؛ ٣١، ١؛ ٣٣، ١) والمآسي والحروب والصراعات والخراب والدمار. كما يؤكد كاتب السفر بشكل خاص بأن من تكون غايته تدمير الآخر يجلب بذلك الدمار لنفسه: “وَيلٌ لَكَ أَيُّها المُدَمِّرُ وأَنتَ لم تُدَمَّر، والخائِنُ وأَنتَ لم تخَنْ. إِنَّكَ حينَ تَكُفُّ عنِ التَدْميرِ تُدَمَّر، وحينَ تَفرَغُ مِن الخِيانةِ تُخان” (اش ٣١، ١). وهذا ما يشير إليه سفر الأمثال أيضاً بتعبيرٍ آخٍر، مشدداً بأن: “مَن يَحفِرْ حُفرَةً يَسقُطْ فيها، ومَن يُدَحرِجْ حَجَرًا يَرْجِعْ علَيه” (أم ٢٦، ٢٧). والعكس صحيح، أي من يعمل الخير يرجع له، ومن يساهم في خلاص الآخر يعمل على خلاص نفسه.
إذن مهما كانت المشاريع الإنسانية عظيمة وكبيرة ومدروسة بدقة، إن لم تكن مباركة من الله ومتطابقة مع مشيئته وتدبيره الخلاصي، سوف لن يكتب لها نجاح، لا بل تتهاوى وتسقط مثل سقوط برج بابل (قارن: تك ١١، ١ ـ ٩). ومثال آخر على ذلك، هو تحالفَ رؤساء اليهود مع إحدى أقوى سلطة سياسية وعسكرية في ذلك الحين وهي مصر، لكن النتيجة لم تكن إلا الفشل والإهانة. ولهذا يأتي توبيخ من الله لشعبه على لسان نبيّه اشعيا، قائلاً: “وَيلٌ لِلبَنينَ العاصين، يَقولُ الرَّبّ الَّذينَ يُقيمونَ مَشرْوعاً لَيسَ مِنِّي، ويَقطَعونَ عَهداً لَيسَ مِن روحي، لِيَزيدوا خَطيئَةً على خَطيئَة” (اش ٣٠، ١). يَعِدُّ الله طريق الخلاص لشعبه، إلا أن الشعب يرفض السير فيه: “لِأَنَّه هكذا قالَ السَّيِّد الرَّبُّ قُدُّوسُ إِسْرائيل: في التَّوبَةِ والرَّاحَةِ كانَ خَلاصُكم، وفي الطُّمَأنينَةِ والثِّقَةِ كانَت قُوَّتُكم، لكِنَّكم لم تَشاءُوا” (اش ٣٠، ١٥). وبدلاً من الاتكال على الله، يتكل الشعب على القوى العسكرية: “١٦ وقُلتُم: «لا بل على الخَيلِ نَهرُب». فلِذلك تَهرُبون «وعلى الجِيادِ نَركَب»، فلِذلك يُسرعُ مُطارِدوكم. ١٧ أَلفٌ مَعاً تُجاهَ تَهْديدِ واحِد، وتُجاهَ تَهْديدِ خَمسَةٍ تَهرُبون حتَّى تُتركوا كسارِيَةٍ على رَأسِ الجَبَل، وكرايَةٍ على التَّلَّة” (اش ٣٠، ١٦ ـ ١٧). وهذا خير مثال على أولئك الذين يُفضِلون الاتكال على الإنسان بدلاً من وضع ثقتهم بالله، فلا ينالون بالنهاية سوى الهزيمة والعار.
وبالرغم من كل تلك المآسي بسبب الرفض والتمرد والعصيان، يتحنن الله على شعبه وينتظر توبته ليخلصه برحمته وعدله، قائلاً: “١٨ لِذلك يَنتَظِرُ الرَّبُّ لِيَرحَمَكم، ولذلك يَتعالى لِيَرأَفَ بِكم، لِأَنَّ الرَّبَّ إِلهُ عَدْلٍ لِجَميعِ الَّذينَ يَنتَظِرونَه. ١٩ فيا شَعبَ صِهْيونَ السَّاكِنَ في أُورَشَليمَ لا تَبكِ بُكاءً، بل يَرحَمُك رَحمةً عِندَ صَوتِ صُراخِكَ، حالَما يَسمَعُكَ يَستجيبُ لَكَ” (اش ٣٠، ١٨ ـ ١٩). كما يعطي الله لمن ينتظره الخبز والماء ويرشده الطريق القويم: “وأُذُناكَ تَسْمَعان كَلِمَةَ قائِلٍ مِن وَرائِكَ: هذا هو الطَّريق فآسلُكوه إذا يامَنتُم وإذا ياسَرتُم” (٣٠، ٢١) بعد أن ضلّلَه المُضِلّون: “… حِيدوا عنِ الطريق، ميلوا عنِ السَّبيل، أَبعِدوا مِن أَمامِنا قُدُّوسَ إِسْرائيل” (اش ٣٠، ١١). وبالإضافة إلى البركات التي يمنحها الله لمن يضع ثقته به، تائباً عن عبادة الأوثان (اش ٣٠، ٢٢ ـ ٢٥)، ينير حياته بنور تعاليمه التي يفوق نورها نور الشمس، ويشفيه من اسقامه ويضمد جراحه، ويَجبُرُ كسوره: “ويَصيرُ نورُ القَمَرِ كنورِ الشَّمْس، ونورُ الشَّمسِ يَصيرُ سَبعَةَ أَضْعاف كنورِ سَبعَةِ أَيَّام، يَومَ يَجبُرُ الرَّبُّ كَسرَ شَعبِه، ويَشْفي جُرحَ ضَربَتِه” (اش ٣٠، ٢٦؛ قارن: اش ١، ٥ ـ ٦). وهذا ما فعله الرب يسوع ـ السامري الصالح ـ الذي خلصنا حينما كنا نحتضرُ (قارن: لو ١٠، ٢٥ ـ ٣٧).
إذن يدعونا النبي اشعيا اليوم لتجاوز خلافاتنا وصراعاتنا، وترك تمردنا على الله ووصاياه، وطلب المغفرة منه كيما يرحمنا ويمسح دموعنا “… وسيَمسَحُ اللهُ كُلَّ دَمعَةٍ مِن عُيونِهم” (رؤ ٧، ١٧)، ويُلَمْلِمُ جراحنا، ويَلُمَ شملنا، ويوحدّ صفوفنا، ويخلصنا وينصرنا بصليبه ـ آمين.