الكاهن أيقونة رعيَّته، بمحبته وصلاته والتزامه
الكاردينال لويس روفائيل ساكو
الأب الايطالي روبيرتو مالجيزيني عمل مع المهاجرين فطعنه احدهم واستشهد، مثال معاصر للخدمة المتفانية
الكاهن أيقونة رعيَّته، بمحبته وصلاته والتزامه. يقتبس ملامحه من المسيح، أيقونة الكاهن الاعظم” ولَمَّا كانَ لَنا عَظيمُ كَهَنَةٍ قدِ اجْتازَ السَّمَوات، وهو يسوعُ ابنُ الله، فلْنتَمَسَّكْ بِشهادةِ الإِيمان” ( الرسالة الى العبرانيين 4: 14). في رسامته الكهنوتية، تُمسح يداه بزيت الميرون المقدس، وتعبر حركات سجوده ورفع كفيه، وحلّته: القميص الأبيض والزنار والهُرار والغفارة عن هذه الايقونة الرائعة التي يتعين عليه ان يصون وقارها وجمالها طوال سني خدمته.
منذ ان كنتُ مديراً للمعهد الكهنوتي في نهاية التسعينيّات، ثم كأسقف أبرشي واليوم كبطريرك عنيتُ كثيرأ بتنشئة كهنتنا تنشئة راسخة وشاملة، وتقوية الروح القيادية عندهم، حتى يتمكنوا من القيام برسالتهم الراعوية على أحسن وجه، حيث ما وجدوا، ومهما كانت الظروف.
اليوم ينبغي على كل أسقف أبرشي ان يضمن تنشئة مستدامة لكهنته، ويتابعهم بمحبته الابوية، ويشجعهم على التعاون مع بعضهم كفريق واحد. من المؤسف اننا في العراق توقفنا عن برامج التنشئة المستدامة الجماعيّة بسبب جائحة كورونا.
الانسان محور رسالة الكاهن
الكاهن هو من أجل الناس وليس العكس. انهم موضوع رسالته وخدمته، والطريق الى تقديس ذاته. عليه ان يحمل همومهم وقلقهم وآمالهم، ويرصد كل شيء من أجلهم، ويضحّي بكل شيء في سبيلهم، خصوصاً الفقراء. لهذا السبب يُقال عنه” الكاهن صورة الرعيّة وكما هو هكذا تكون الرعيّة”.
يوجد في الكنيسة الكاثوليكية أكثر من اربعمائة الف كاهن، معظمهم ملتزم وامين لرسالته، لكن هناك أزمة هوية وامانة عند البعض، أي من هو ملتهٍ بامور غير انجيلية، لذا يبتعد الناس عنه. على الكاهن ان يكون قريباً من الناس، وأن يتعامل معهم كأخ وأب وصديق، وليس كمن هو فوقهم. لا ينبغي للكاهن ان يفكر انه ينتمي الى طبقة كهنوتية “اكليروسانية” ويتصرف بعقلية سلطوية! كما يجب الا يسمح لاي شيء كان ان ينزع كهنوته منه!
وجود كهنة افاضل، ملتزمين بكهنوتهم وامناء له، قضية حيوية في الكنيسة. ومجتمعنا يتطلع الى شاهدٍ للمسيح، شاهد لمستوى آخر من الحياة، شاهد لملكوت الله في عالم يتجه أكثر فاكثر الى المادة والاستهلاك والمتعة، ويدير ظهره للقيم الروحية.
الكاهن يحمل قضية “ملكوت الله”
ان سرّ الكهنوت، والحياة المكرسة في العزوبية، بالنسبة للكاهن والشخص المكرّس راهباً كان أو راهبة، هو ليجعلا ملكوت الله حاضراً وملموساً في شخصهما، وفي الرعية أو الدير. يقول انجيل لوقا: “وسأَلَه الفِرِّيسِيُّونَ مَتى يَأتي مَلكوتُ الله. فأَجابَهم: لا يأتي مَلَكوتُ اللهِ على وَجهٍ يُراقَب. ولَن يُقال:ها هُوَذا هُنا، أَو ها هُوَذا هُناك. فها إِنَّ مَلكوتَ اللهِ في داخلكم” (17:20-21). لذلك يتعين على الكاهن ان يجعل قلبه شبيهأ بقلب معلمه يسوع في تجدّد دائم وسلام وفرح.
راهبات مكرَّسات يعشنَ تكريسَهنَّ في العالم والعالم في تكريسهنَّ
الكاهن شخص متحمس، يُسخّر كل طاقاته في سبيل “ملكوت الله” الذي يصلي بوعي أو بدونه، عدة مرات في النهار قائلا: “أبانا الذي في السموات.. ليأتِ ملكوتك”. يجب ألّا ينسى الكاهن ولو لحظة واحدة دعوته: ها أنذا أرسلني.. اذهب وقل..وتلمذ.. ويتحمّل بجدارة المسؤولية التي يلقيها عليه المسيح، الكاهن الاعظم.
يتحتم على الكاهن ان يعظ بالانجيل، اي ببلاغاته- معانيه العميقة، وليس بالكلمات الرنانة الجوفاء، ويوجه الناس الى الله وليس الى شخصه.
كاهن يصلي ويرنّم ويحوّل الليتورجيا الى احتفالٍ وعيد، وينبوع رحمة وسعادة، يُدهشُ، ويجذبُ ويُبهج هوأيقونة حيّة. كاهن ينتبه الى ما حواليه، الى علامات الأزمنة، ليكتشف فيها جديد الله، فيسِم الأشياء بروحانية الانجيل وجذريَّته. ويمنحه الروح القدس مواهبه – النِعَم، لكن يجب ان يعرف كيف يستقبلها، ويكون في يقظة الروح وتجدد دائم فيعيش طمأنينة القلب والسكينة.
العمل الراعوي
العمل الرعوي، نسبة الى الرعية أو الراعوي نسبة الى الراعي، ويسمى أيضاً العمل الرسولي apostolic work هو كلُّ نشاط يتم في الرعية بهدف خدمة أفضل. العمل الرعوي المتكامل يدخل في مجالات عديدة: روحية وثقافية واجتماعية وصحية واقتصادية، انطلاقاً من رسالة المسيح: “أتيتُ حتى تكون لهم الحياة وبوفرة” (يوحنا 10/10). لذلك العمل الرعوي يتخذ كل مساحة تفكير الراعي ومشاعره واهتمامه.
العمل الرعوي ليس اسلوباً أو تعليماً، انما هو تنشئة مؤمنين ليغدوا رسلاً لكنيسة اليوم – للقرن الحادي والعشرين. ويُثبت الراعي مصداقيته من خلال البرمجة المترجمة بالأعمال. فهو على سبيل المثال في ظروف كظروف العراق الحالية..، يُنتظَر منه ان يحمل كلمة رجاء ونور وفرح إلى أناس أتعبتهم الظروف، ويشعرهم بانه يحبهم، ويهتم بهم ويتفاعل معهم معتبراً إياهم اخوة له وليس قطيعاً يقودهم.
تحديات عديدة
هناك تحديات متنوعة يواجهها الكاهن في رسالته وخدمته، اذكر منها:
- الناس عموماً والشباب بشكل خاص يختلفون عن الجيل الذي قبلهم. الشاب اليوم يبحث عن معنى لحياته، وعن مستقبله، وعن الأمل.
- العلمنة، اي روح العالم الذي يجعل كل شيء نسبياً ومبتذلاً. وتأثير وسائل التواصل الاجتماعي التي فتحت الابواب واسعة امام الناس ومن دون رقيب. إن التعامل مع هذه الحالات طريق صعب. على الكاهن ان يميز كل حالة منفردة بحكمة وصبر، ويُعين قدر المستطاع.
- التقليد والطقوس والقوانين- الأدبيات القديمة، مصطلحات لاهوتية غير مفهومة، واللغة الطقسية التي لا يفهمها بعض الكهنة، كذلك يجهل البعض منهم لغة البلد الذي يخدمون فيه! من المؤسف ان هذه الادبيات لا علاقة لها بالواقع الحالي، وقد تؤدي الى حدّ يفقد المسيحي قدرته على الفهم. لذلك نحن بحاجة الى تعابير ورموز وطقوس تحمل لنا الايمان و الامل، والحماسة والفرح.
- جفاء تعامل بعض الاساقفة وتقتيرهم على الكهنة يُتعب، ينبغي الا ينسى الاُسقف انه كان كاهناً! كذلك عدم قدرة الاسقف على القيادة يعيق إستجابة الكهنة لمتطلبات التجديد الروحي والطقسي والراعوي.
- الوحدانية تُرهق حياة الكاهن، لذلك اشدد على أهمية إيجاد فرصة للحياة المشتركة بين الكهنة للصلاة والاقتسام والتعاضد في جوِّ اخوي وعائلي.
- الهجرة هي التحدي الأكبر لكاهن الرعية، عندما يرى أبناء رعيته يسافرون الواحد تلو الآخر إلى المجهول وخاصةً عندما تتخذ الهجرة شكل نزوح جماعي.
هذه التحديات وغيرها على الكهنة ان يناقشوها مع اُسقفهم والمجلس الراعوي لإيجاد الحل الملائم، خصوصاً أن بعض الأبرشيات تفتقر الى الامكانيات المادية!