أخبار عاجلة
الرئيسية / المقالات / الحقيقة، هل تنتحر؟ الجزء الثالث والاخير

الحقيقة، هل تنتحر؟ الجزء الثالث والاخير

… نماذج من الحياة– يتبع

نموذج كنسي ديني

رسالة بطريرك الكنيسة الكلدانية الأخيرة، مار لويس ساكو، والموجهة إلى من يهمه الأمر، جاءت واضحة ولا تحتاج إلى تفسير وتعليق. فهي تكشف حالة متقدمة من الانفلات في العمل الرسولي والراعوي. كما أنها تكشف حقيقة التمادي المستشرية، ليس في قلب هذه الكنيسة فحسب، بل في معظم الكنائس المشرقية الباقية الأخرى، سواء ما هو قائمٌ منها في الداخل أم في بلدان الاغتراب. فقد “طفح الكيل” ولم يعد تصرّف بعض رجال الدين مقبولاً ولا لائقًا. الكاهن خادم الرب كما أنه خادم الشعب. “ما جئتُ لأُخدَمَ بل لأَخدُمَ“، قالها المسيح وطبقها في رسالته الخلاصية وسط الشعب. من هنا، لا يمكن أن تبقى الأوضاع المترهّلة والمسترخية عل هذه الحال. “لا حصانة لأحد، والكهنوت لا يمنح حصانة الية. حصانتهم هي اخلاقهم، وخدمتهم وتضحياتهم وشفافيتهم“. قالها البطريرك ساكو بكلّ جرأة وبصراحة.

فمَن زاغ عن الطريق، عليه مراجعة الذات والعودة إلى الينابيع كي ينهل من غدران الحياة الروحية الصحيحة بتعاليمها، والأمينة في تفاعلها، والرصينة في تطبيقها على الشعب والمجتمع. وهذا هو الوقت الصالح لإصلاح المكسور وإعادة الضائع والاقتداء بسيرة وتعاليم قدوتهم الأول، المسيح وخليفته الأول بطرس، بشخص البابا المتواضع فرنسيس الأول، الذي ضرب المثل منذ اعتلائه السدّة البطرسية خادمًا وليس حبرًا متعاليًا مستغِلًّا لموقعه على رأس كهنوت الكنيسة الجامعة. إذ ليس من المعقول، استغلال الكاهن أو الأسقف، أيا كانت مرتبتُه، موقعَه للإيغال بالاستخفاف بالمؤمنين، وعدّ أنفسهم “فوق الكلّ ومعاملتهم لهم بخشونة وبكلمات جارحة ومشينة وبعنجهية“. أين هؤلاء مِن كلام ووصايا رسول المحبة والسلام الذي تعهدوا أن يسيروا على خطاه حينما كانوا في فترة التلمذة والتهيئة لاقتبال مسؤولية الرسالة خدامًا للشعب؟ هذا هو المحكّ، وذلكم هو القرار الجريء الصائب: “على الجميع الالتزام التام والمطلق بالرسالة الانجيلية التي من أجلها تكرسوا. سوف نتخذ اجراءات صارمة بحق من يسيء الى الكهنوت والكنيسة. ليبق من يلتزم وليذهب من لا يريد.

ومثلُهم، فقد كثرت شكايات المؤمنين من تصرفات بعض الكهنة الذين تركوا أو كادوا يتركون الواجبات الروحية والاجتماعية الملقاة على عاتقهم في الصلاة اليومية والبحث عن القداسة في حياتهم ونصح المؤمنين للتقرّب من ربّهم أكثر والعيش في سلام روحي مع النفس ومع الله. لم يعودوا ذلك “الحمل الوديع، ومتواضع القلب“، الذي كان تحدّث عنه المسيح كي يجتمع حوله المتعبون وثقيلو الأحمال.

إقطاعيات أم كنائس!

حدثني، أحد الأصدقاء يقول: ما هذه الأحوال؟ هل نحن نعيش عصر الإقطايات في كنائسنا؟ هناك قساوسة قد نصّبوا أنفسهم أباطرة في خورناتهم، وهم يرفضون مغادرَتها عندما يُطلب منهم ذلك من أجل ممارسة نظام المناقلة بين كهنة الخورنات في الإبرشيات. بل أصبحت بعض الكنائس تُدعى باسم خوارنتها، وكأنّها ملكٌ حلالٌ قُيّدت لهم منذ تعيينهم فيها لخدمة المؤمنين. أيُعقل ذلك؟

إن نظام المناقلة هذا، لا بدّ أن يُطبق في جميع الكنائس دون استثناء، إن أردنا حقًا إصلاح المكسور ورأب الصدع بين الكنيسة والخوارنة من جهة مع المؤمنين وحاجاتهم وتطلعاتهم الروحية. وبغيرها، سنقيم دكتاتوريات سياسية- كنسية لا تختلف عن الدكتاتوريات السياسية المدنية القائمة في عدد من الدول المتخلفة، ومنها في منطقتنا العربية التي لم تعرف بعدُ ربيعًا نقيًا ينتشلها من شتاءات القرون المظلمة.

أتذكر في بداية السبعينات، حينما نشبت أزمة بين كهنة خورنة قرقوش- بخديدا، كان للشبيبة المسيحية دورٌ جريء في تشخيص الخلل، وكان لي فيها دورٌ مهمٌّ مع زملاء آخرين، حينما أشرنا إلى مثلث الرحمات المطران عمانويل بنّي، ان يقوم بالمناقلة بين كهنة الإبرشية بين فترة وأخرى. في وقتها، لم تكن الفكرة قد اختمرت بعدُ لدى سيادته، رغم إرادته الطيبة في وأد الفتنة، وذلك بسبب صعوبة تطبيقها لظروف رآها غير مناسبة. لكنها، تحققت بعد سنوات قليلات وأثبتت صحة تشخيص موقع الخلل. وما زالت ذات الفكرة تُطبق في هذه الإبرشية، بل إنها أثمرت، مع استثناءات تقتضي بعدُ، خطوة جريئة لوضع الأمور في نصابها بعيدًا عن تأثيرات جانبية خارج إرادة الإبرشية.

وهذا ما يتطلّبه واقع باقي الكنائس المشرقية بتعدّد طقوسها. وحسنًا اتخذ سينهودس الكنيسة الكلدانية الأخير وبطريركها المجدِّد، قرارًا بمناقلة كهنة كنائسهم في الداخل التي يسودها الترهل وضعف الغيرة الرسولية. لكنها ستكون خطوة ناقصة، إنْ لمْ تشمل إمبراطوريات إقطاعية في بلدان الاغتراب التي يتبجح بعضٌ من أساطنتها أنّ بيدهم القوة الفاعلة في قلب الموازين عند اقتضاء الحاجة.

هروب إلى الأكثر جاذبية

حقًا، لقد ساهم بعض الكهنة في ابتعاد عدد من المؤمنين من كنائسهم للبحث عن ملجأ آخر أكثر انسجامًا مع تطلعاتهم وأصفى إصغاءً وتلبية لعطشهم الروحي. وهذا أمرٌ مؤسف، يتباكى عليه الجميع اليوم وينتقدونه دون دراية وافية للسبب الحقيقي لحصوله واتخاذ المطلوب لوضع حدّ لتواصله المستمرّ. إنّ ما تتعرّض له كنائسنا المشرقية من صدع في هيكليتها، تتحمّل الرئاسات الكنسية جميعًا جزءًا كبيرًا من المسؤولية بحصوله. لأنّ مثل هذه الإهمالات قد فسحت المجال لكنائس دخيلة كي تتغلغل في أوساط المؤمنين وتصطاد مَنْ فقد ذلك الأمل وذلك الرجاء وذلك الإيمان لدى كنيسته الأصيلة ليؤمّ صوب هذه الدخيلة التي انجذب لها أكثر، لما تقدّمه هذه من مغريات في حركاتها وتطلعاتها وانشطتها، مستغلّة في الكثير من الأحيان، ضعف إيمان البعض وهشاشة حالتهم المادية وشظف العيش المادي من أجل كسبهم باتجاهها. وتلك مأساة تستوجب التوقف على عتبتها والتأمل في عواقب نتائجها غير السارة. انظروا، إلى بعض كنائسنا الأصيلة، فهي تكاد تكون شبه خاوية ايام الآحاد، وحتى في المناسبات، إلاّ من مؤمنين أتقياء تقليديين، فيما تعجّ الكنائس الدخيلة الجيددة بخيرة الشباب المتلهّف. إلى ماذا؟ لا أدري! كما يبدو، علينا، أنا وأنتم معًا، ان نستبصر الوضع ونستفهم الواقع كي نتيقن ممّا يحصل على أرض الواقع، ولكي نخرج بنتيجة تفيد كنائسنا المشرقية الأصيلة، وتعيد لكاهن الرعية دور الراعي الصالح الذي يبحث عن الخراف الضالة: يترك التسعة والتسعين ويبحث عن الواحد الضالّ منها، ليعيده إلى حظيرته الأصلية.

لقد قالها البابا فرنسيس الأول بصراحة، في خطابه الموجه إلى الشباب المتعطّش لسماع كلمة الراعي الصالح، خلال مشاركته قبل أيام في الأيام العالمية للشبيبة 2013، التي عُقدت في ريو دي جانيرو بالبرازيل: ” الشباب يفقدون إيمانهم بالكنيسة، وحتى بالله، بسبب وجود كهنة سيّئين لا يلتزمون بالإنجيل“. ألا يكشف مثل هذا الكلام الجريء والواضح عن حقيقة ماثلة يعيشها أبناء مختلف الكنائس في وطننا، نحن أيضًا؟ أليس في مثل هذه المصارحة وهذا النداء ما ينبئ عن بروز “صوت صارخٍ في البرّية لإعداد طريق الرب وتقويم سبله“، كما يقول الإنجيل؟

مهمة الكاهن ليست في السياسة أو التجارة

في الواجهة أيضًا، هناك كهنةٌ أوغلوا في عنادهم بدخول مجال السياسة اللعين والاسترزاق من فتات الأسياد بوسائل وسبل متنوعة. فمنهم، مَن أهمل تعاليم الإنجيل، ومنهم مَن ضرب عرض الحائط توجيهات رئاسته، ومنهم مَن لم يتورّع في استغلال درجته الكهنوتية في أمورٍ تجارية وصفقات مادية لا تليق به وبسمعته ككاهن، “سائحٍ على دروب الربّ“. بل منهم، مَن أُحيل على التقاعد بسبب مشاكساته وتدخله في ما لا يعنيه ككاهن، وهو الذي من أسمى أهدافه خدمة الشعب المؤمن، وليس الضحك على عقول البسطاء من المؤمنين، لاسيّما الذين ينظرون لغاية الساعة على كون الكاهن شخصًا مقدّسًا نازلاً من السماء ولا يمكن المساس باسمه أو سمعته أو الحديث عن نزواته وخروجه عن خط الكهنوت. وإلاّ كيف يُفسّر تدخّل كاهنٍ متقاعد في إحدى الإبرشيات المهمة بالموصل في شؤون الرعية، وهو يمتلك اليوم سلطة تفوق سلطة رئيسه الأسقف، والأخير لا يستطيع وضع حدودٍ لتصرفاته الشاذة وغير المقبولة، بل التي تثير الشكوك. ألم يقل المسيح في مثل هذل النموذج ” خيرٌ لمَن يشكّك أحد هؤلاء الصغار، أنْ يوضع في عنقه حجرُ الرحى ويُلقى به في البحر“؟ أمْ ماذا يعني هذا الكلام، ولِمَن قيلَ؟ ومثله، هناك كهنة قد جيّروا كنائسهم لمصلحتهم، وهم من الصنف الذي لا يتقبلون فكرة المناقلة أو حتى قدوم زملاء غيرهم للمشاركة في خدمة المؤمنين، لأنّ ذلك في نظرهم، سينغّص لهم نظام حياتهم ويكشف الخلل في أنشطتهم غير المستحبة التي لا تليق بمسؤولياتهم الروحية.

حقًا، إنّ الكلام الجريء والصريح الصادر من البابا فرنسيس قبل أيام حول سلوكيات غير مقبولة من بعض الكهنة الذين أصبحوا حجر عثرة أمام الشبيبة والرعايا إجمالاً، احتاج من رأس الكنيسة الجامعة، شيئًا كثيرًا من الشجاعة. وهي ذات الشجاعة التي طالب بها قداستُه الشباب للتحلّي بها، وعدم الاقتداء ببلاطس البنطي الذي غسل يديه من دم المسيح البريء الذي لم يجدْ له جناية ليحاكمه عليها؟ تلكم هي الوديعة التي ائتمنها المسيح لرسله من بعده وهؤلاء لخدام المسيح من بعدهم. فمن خان الأمانة وفرّط بالوديعة، يستحق دينونة اعظم، لأنّ “مَن أُودع وزنات كثيرات، مُطالب أن يؤدّي حسابًا عسيرًا أمام القاضي والديان” في هذه الدنيا وفي الآخرة. مَن له أذنان سامعتان، فليسمعْ!

أخيرًا، ألحقيقة لا تعرف المخاتلة

هذه إذن، هي أدوات الحقيقة وتلكم لعبتُها. ومهما جازف البعض أو تجبّر أو استأسَد بالغير الطامع، لابدّ أن تنقشع شمسُ الحقيقة وتسطع أنوارُها لتزيل الوهمَ والطمع والكذب وحب الجاه والمال والسلطة ونزعة القتل والتدمير والرذيلة لديه بدون سبب، ومنها لتُحرّر البشر مِن إثم التكفير والتنكيل والتهميش غير المبرّر، بل لمجرّد الاختلاف بالرأي أو الدين أو المذهب.

وهناك مَن يعزو كلّ هذه السلوكيات إلى سلطة من الله قد أُنزلت عليه. وما علاقة الله الخالق الطيّب والراحم بالبشر بكلّ هذه المماحكات والتأويلات والاجتهادات والمتاهات؟ أليس سبحانه مَن أعطى البشرَ عقلًا وصحةً وطعامًا وملبسًا وقدرة للتكاثر والنماء والمتعة ضمن حدودٍ انضباطيةٍ يفرضُها كلُّ مجتمع وفق معايير الحياة المقبولة في حدود نطاقه وبما تقبلُه طبيعة حقيقة هذا الخالق؟ أمْ إنّ الفوضى والعربدة وحبّ الظهور والاستعباد والاستغلال واللعب بمصالح الغير هي مِن شيمِ كلّ فاسق وطمّاعٍ وشرهٍ ومتسلّط؟

قالوا: إن دعتكَ قدرتُكَ على ظلم الناس، فتذكّرْ قدرةَ اللهِ عليكَ”.

وأنا أقول: مَن راهنَ على استغلال فاقة الناس وحاجتهم ليصل إلى مبتغاه، فهو خائبٌ وفاشلٌ مهما حشّد مِن رعاع البشر للتصفيق والتمجيد له! فالحقيقة لا يمكنُها أن تنتحر طالما تُسمع اصواتٌ جريئة لقرع ناقوس الخطر وكشف ما يُحاك في الدهاليز من سلوكيات غير مستقيمة. فالمستقيمُ المتذبذب في حياته، والخائف من العواقب، وكذا مَن يخشى الصعاب ويتردّد في كشف الحقيقة والفساد ومنابعه، لا يجرؤ أن يسير عكس التيار الجارف المليء كذبًا ورياءً ومخاتلةً، بسبب هشاشة مبادئه وضعف إيمانه بضرورة استقامة الأمور بالعدل والمساواة والحق، رغم يقينه بضرورة كشف المتلبسين بتلك السلوكيات غير المقبولة والإفصاح عن ألاعيبهم الفاسدة.

لا تخافوا“، قالها لنا المسيح، وهي دعوةٌ تتجدّد معنا كلَّ يوم. فالسيرُ عكس التيار من صفات الشجعان، كما أشار مؤخرًا قداسة الحبر الأعظم المالك سعيدًا، فرنسيس الأول، عندما يتعلّق الأمر بكشف الحقائق من أجل الإصلاح والمنفعة العامة، دون الإخلال بالسلوك العام للغير والمجتمع. ونحن نعلمُ أيضًا أنّ “ما مِن مَستُورٍ إِلاَّ سَيُكشَف، ولا مِن مَكتومٍ إِلاَّ سَيُعلَم، إن عاجلاً أم آجلاً.

فلنكنْ شجعانًا ولنسرْ إلى أمام في كشف الحقيقة أينما كانت وكيفما آلت. ولئن رأى البعض أني أسير عكس التيار، فهذا شرفٌ كبيرٌ لي بطرح ما أومن به دون خوف أو تردّد، وليس كمَن يغطّي على الشرّ ويسكت عن الحق ويترك القدر مستورًا!

لويس إقليمس

بغداد، في 30 تموز 2013

عن Yousif

شاهد أيضاً

مسحة المرضى، سرّ من أجل الحياة

مسحة المرضى، سرّ من أجل الحياة الاب أدّي بابكا راعي كنيسة مار أدّي الرسول في …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.