شهداء الرجاء في أزمنة الوباء
الاباء الدومنيكان مثالا
الأب سمير بطرس الخوري
مقدمة :
سأقدم هذا المقال على شكل حلقات خمسة ، لكي نتمعن بمعاني الشهادة الحياتية ونأخذ عِبراً منها ونتشجع ونقتدي بهؤلاء الأبطال الذين كانوا ولا يزالوا في العالم كله يقدمون حياتهم ويدخلون حروباً بلا سلاح لا ضد الأمراض والأوبئة والفايروسات التي تهتك الجسد فقط، بل ضد الجهل والفقر والظلم، تلك الفايروسات الأخطر والتي تُعمي البصيرة وتصنع الأرهاب بأشكاله. هؤلاء الأبطال سواء كانوا كهنة أو رهبان وراهبات، علماء وأطباء وممرضين، علينا في هذه الأزمنة أن نذكرهم ونرفعهم كمنارة للبشرية جمعاء، ونكرمهم بأن نتكلم عنهم ونُحي ذكرهم بعد أن أنتهى بهم الأمر في أوراق الأرشيف وكتب التاريخ والمتخصصين وعلى مثالهم اليوم من هم أحياء يخوضون حربا أيضا بلا سلاح ضد فايروسات غامضة، لا تكشف عن نفسها ولا يُعرف مصدرها الحقيقي، ولماذا وكيف أنتشرت. وبدون أن نخوض في فرضيات وتحليلات وطرح أسالة لماذا؟ وكيف؟ ومن؟ غايتي من هذه المقالات أن نشحن الهمم ، ونسطف معاً ونتعاون رجال دين ودنيا، علماء، أطباء وصيادلة وممرضين، كباراً وصغاراً، وبالأخص الشباب، لكي يكون للبشرية وقاية صحية ووقاية روحية. فنقوّي مناعة أجسادنا وأرواحنا ونفوسنا. ونزيد من التفاؤل والشجاعة لمواجهة التحديات الجديدة، ونشجع بعضنا البعض، وهكذا يزول الخوف والهلع، ومن الضروري أن نقلق ونتوتر وأدعوكم الى القلق ولكن بشكل إيجابي، لكي نهتم نحتاط ونفهم ما يجري ونعرف أن نحارب بسلاح الإيمان والعلم، اللذان هما جناحا الأنسان. أننا نخوض معركة وحرب، وكل حرب لها أبطالها وابطال هذه الحرب هي أنت وأنا وهم، وسيذكر التاريخ أبطالها. وأن نعرف أن نتموضع في البيت وننتبه ونستغل أوقاتنا التي كثيراً ما لم نعرف قيمتها. وهي فرصة هذه الأيام أن نقرأ وهذه المقالات التي سأنشرها تِباعاً هي فرصة أيضاً أن نطّلع على أمور مهمة ومشوقة، وأن كان فيها ما يحزن أو يجعلنا نتأسف على رجالات وأبطال لم نعطيهم حقهم نحن ولا التاريخ، ولكن سنجد ما يعزينا ويمنحنا الرجاء في زمن الوباء الكوروني هذا.
الحلقة الأولى
عندما كنت يافعا، كنت اسمع من الأخوات الكبار والوجبات الأولى من راهبات القلب الاقدس، عن مؤسس رهبنتهم القس عبد الأحد ريس بأنه توفي شابا بسبب وباء الطاعون عام 1916، اي قبل مئة عام تقريبا، عن عمر 36 سنة، وهو من خريجي معهد مار يوحنا الحبيب، فكنت اتساءل كيف؟ لماذا لم يأخذ الحيطة وينتبه؟ وكما نسمع اليوم كثيرا عبارة “حجر نفسه” أو لماذا لم يلتزم بشروط الوقاية، إذ تعوَّد جيلنا، جيل وفرة الأدوية واللقاحات “إن يسمع عبارة “الوقاية خير من العلاج”. فكانت الإخوات تُحدِثن عن أن الأب عبد الأحد ريس، لم يُخفه الوباء ولم يوقفه عن مساعدة الذين كانوا يُصابون ويُتركون خارجا؛ إما بالاهتمام بهم وجمعهم في مكان ما، أو بمنحهم مسحة المرضى والقربان المقدس، ويزورهم، ويقدم الطعام لهم، وكان يساعده بهذه الخدمة الشجاعة بعض أبناء وبنات قرية أرادن وبعض القرى المجاورة، والذين كثير منهم لحقوا براعيهم ونال منهم الوباء. وهكذا أيضا نال من صحة وحياة بعض الإخوات الراهبات من قرية أرادن والذين كانوا أولى البنات الذين كرسوا نفسهم لقلب يسوع الاقدس. وثم عندما أصبحتُ طالبا في السيمنير وتقرَّبت أكثر من حياة راهبات القلب الاقدس وثم كأهناً اُقدّس للرهبنة كل سبت عندما كنت راعياً لخورنة مار بولس، كنت أتأثر لسماعي قصص ومواقف ينقلها لنا اخوات مثل اخت كولومبة و سيسيليا وبريجيث وغيرهم عن ذلك الأب الشجاع الذي لم يترك رعيته ورافقهم في مواجهة وباء الطاعون الذي كان يحصد أرواح الكثيرين في قرى صبنا وفي العراق وفي باقي الدول. والأب عبد الأحد كان يسير في خطى الأباء الدومنيكان، الذين درس على أيديهم. وعندما هداني الشماس بهنام حبابة كتابه عن تاريخ الآباء الدومنيكيان في الموصل والعراق، تأثرت أكثرعند مطالعتي، سيرة الأباء الدومنيكان في الموصل خاصة وشمال العراق، وعن اول مشفى اُفتتح في الموصل وثم في مستوصف في دير مار ياقو لاستقبال ومعالجة آلاف المصابين بمرض الطاعون أو امرأض أخرى خطرة. بحيث كان الآباء الدومنيكيان الأيطاليون أولاً وثم الفرنسيون اول من شمَّروا عن ساعدهم في مساعدة المصابين والوقوف معهم والعمل على شفاءهم، وهذا كان يُجهدهم ويأكل من صحتهم، لا بل كان يؤدي إلى وفاتهم والكثير منهم كانوا لا زالوا كهنة ورهبان شباب أو في قمة عطاءهم. وخاصة في ذلك الوقت الذي لم تكن هناك لقاحات أو علاجات وأدوية فعالة تُشفي المصابين. فكانت بعض العقاقير والأدوية مسكّنات تساعد قليلاً على المقاومة وباقي العلاج كان يتوقف على عناية الأباء وبنية المريض، وعلى الغذاء الذي كانوا الآباء الدومنيكان يقدمونه مجاناً. وكثير من هؤلاء الأباء الدومنيكيان كانوا من أقاليم فرنسا وإيطاليا، وساذكر في المقال قبل الأخير بعض منهم وخاصة من الذين فقدوا حياتهم وماتوا، وأقول بقوة ” استشهدوا” بشكل بطيء، اقول استشهدوا، لأن موتهم فعلاً كان شهادة قوية وشُجاعة، أكثر من الذين قد استشهدوا نتيجة عمل إرهابي مفاجيء، أو بعد خطف. لأنهم كانوا يعرفون انهم سيموتون تدريجياً لا محالة، ففي وقتها لم يكن هناك معقِّمات يد “sanitizers” كما تتوفر اليوم، أذ نضع علبتين بدل واحدة في جيوبنا، وديتول وكفوف، وأدوية معالجة. أو منظمة صحة عالمية تعمل كخلية نحل مع علماء العالم لتجد لقاحاً، أوتنشر تعليمات وترسل خبراء لمساعدة الأطباء لمواجهة الوباء، بل كانوا رهبان وكهنة، يواجهون عدواً وخطراً ويخضون حرباً بلا سلاح. وكانت أسلحتهم أجسادهم العامرة بالإيمان بمحبة الله والإنسان، تابعين معلمهم في طريق الاستشهاد؛ مجسدين قول معلمنا ومخلصنا يسوع المسيح “ما من حُبّ أعظم من أن يبذل الإنسان ذاته من أجل أحبائه”، وسنجد بالأرقام، من كانوا أحبتهم: آلاف من المسلمين واليهود قبل المسيحين، يلتجئون إليهم، ليجدوا بين أيدي هؤلاء الرهبان وأيضاً الراهبات الدومنيكيات وراهبات التقدمة الذين أستقدموهم لاحقاً، ليجدوا العزاء والرجاء، مستمدين رجاءهم وعزاءهم من يد الرب يسوع المصلوب ومن يد أمه العذراء مريم الواقفة والحاضرة تحت الصليب.
ونحن نفكر بهؤلاء الأبطال، قد يقودنا التفكير ابعد إلى القديس فرنسيس الذي ذهب نحو المصابين بالبرص والمنبوذين خارج المدينة، حيث كان يأخذ لهم الخبز ويعطي لهم العزاء، حيث جذب نحوه القديسة كلارا وغيرهم ليساعدوه في تخفيف عذاباتهم ويصلي عليهم. ومن دون أن يخاف مخالطتهم وبهذا عمل بحسب ما سمعه في رؤية الصليب الذي كلمه، وبنى الكنيسة من خلال الذهاب إلى المهمَّشين والمرضى، لكي لا يشعروا بأنهم بعيدين عن الكنيسة وعن محبة المسيح لهم. وتصرّف فرنسيس هذا أعاد إلى الكنيسة آنذاك قوَّتها وعظمة رسالتها بأن تواجه كل سبب للتهميش والإقصاء في المجتمع، سواء كان لأسباب اجتماعية أو صحية أو أخلاقية، فالفايروسات والأوبئة التي تعزل الإنسان وتقتله في روحه وإنسانيته هي أكثر وأخطر من التي كانت في الأزمنة القديمة ولا تزال، والتنمّر الذي أصاب بعض الدول الأوربية، الذي لا داعي له إن عرفنا طرق الوقاية الصحيحة والتخوف اليوم والخوف صار أخطر من الفايروس نفسه، وصار يخلق فوضى وتخبّط وتطرّف بالتسوق، وأقول ما لاحظته هذه الأيام، إن في أزمنة أنتشار الفايروسات والأوبئة تظهر أفضل وأسوأ ما في السلوك البشري.
للمقال تكملة ،
الأب سمير بطرس الخوري
كنيسة مارت شموني
إينشكي