أخبار عاجلة
الرئيسية / المقالات / عظمةُ النهر تُعرَف من مَصَبِّه

عظمةُ النهر تُعرَف من مَصَبِّه

عظمةُ النهر تُعرَف من مَصَبِّه

نجوى طعمه باسيل / لبنان

بحث في خمسة أجزاء حول تصوّف بولس الرسول 

الجزء الرابع

لنفهم أكثر ما ورد، سنقرأه بلغة النساء الميستيك. تريزا الصغيرة كتبت:” ليس الزمن إلاّ حلم وسراب”.هذا ليس شعرًا. من تعمّقوا في روحانيتها خلَصوا الى أنّ، آلام يسوع هي حالية، في الحقيقة هي حاضرة الى يسوع المصلوب. في قفزة صوفية، تخطّت حدود الزمن. والتاريخ بأكمله لم يعد سوى حضور عند أقدام الصليب!

إذا لم يكن الامتلاء في كل لحظة، فلن يكون هناك البتة امتلاء في حبّنا لله. ولكن، إن نحن نهَلنا كلَّ دقيقة، من ينبوع اللحظة الأبدية الذي لا ينضب، هذه اللحظة التي تتعلّق بها حياتنا، فإنها تهَبنا الله.

يسوع ذاته يتكلّم مع Mechtilde de Hackeborn قديسّة متصوّفة من القرون الوسطى:” ستكونين لي ثوبًا ألبسه. لأني أسكن كيانك، عليّ أن أتمّم وأحقّق كلَّ أعمالك”.

“المغارة والصليب” كتاب لإديت شتاين. في جحيم الحرب العالمية الثانية، تتأمل في تأوين الصليب:

“إرفعي نظركِ الى المصلوب. دمُه الغالي يصبح دمكِ. مُقيَّدة إليه، تصبحين حاضرة، كما هو حاضر في كلّ مكان. لا هنا وهناك كالطبيب والممرضة أو الكاهن، بل على كل الجبهات، في كل خراب ومأساة. تصبحين حاضرة في قوّة الصليب. حبّكِ الشفوق هذا، هو الحبّ الآتي من قلب الله. يملك في كل مكان حيث ينشر المصلوب دمه الثمين، يبلسم الجراح، يشفي ويخلّص”.

ألَيس هذا ما يحصل فوق المذبح في كل قدّاس. في لحظة يتلاشى فيها الزمان والمكان في الأبدية، يوحِّد المسيحُ في جسده ودمه البدايات والنهايات، ساكني الأرض والسماء.

وبولس بقوله “أُتمِّم في جسدي ما نقُص من آلام المسيح في سبيل جسده الذي هو الكنيسة” .

عشرون قرنًا بعد الرسول بولس، الأب تيار دو شاردان سوف يختبر عبر الكون والمادة ونظرية التطوّر ما خطّته عبقرية بولس عن سرّ المسيح والخليقة والقيامة. سعيد هو أن يبرهن بحدسه العلمي ما وصفه بولس بحدسه الصوفيّ، في رسالته الى كنيسة كولوسي :” به وله خلق الله كلَّ شيىء في السموات وفي الأرض … بدمه على الصليب حقّق السلام”.

النبْض الصوفيّ بين الرجلين يتلاحم مَدًا وجَزرًا، في كلِّ الإتجاهات والأبعاد . يخترق حُجُب المعرفة . يقف مذهولًا مشدوهًا متأملًا طَلعة المسيح!

“منذ أن وُلِد المسيح، الى أن بلغ أَشدّه وحتى مات، كلُّ شيىء آخِذ في الحركة لأن المسيح لم يكتمل بعد. لم يجمع إليه ثنيّات ثوبه اللحميّ والحُبّي التي ينسجها له المؤمنون به … المسيح هو نهاية التطوّر”.(نشيد الكون)

“نحمل في أجسادنا كلَّ حين موت المسيح، لتظهر في أجسادنا حياة المسيح أيضًا” (2كورنثوس4/11) قيامتنا ليست حدثًا ننتظره وسيأتي، بل هي تحقّقت بقيامة المسيح لكن لم تُكشَف بعد. نحن في المسيح ومع المسيح وللمسيح.

“جعل الآب المجيد إسم يسوع فوق كلِّ إسم يُسمّى، لا في هذا الدهر فقط، بل في الدهر الآتي….وهو يملأ كلَّ شيىء في كلِّ شيىء” (أفسس1/16و23).

حين يلمسُ بولسُ إسمَ المسيح، في الحال تعبَق الكنيسةُ وتتضوّعُ برائحة يسوع وكأنّي بها لمسة أناملَ تنثُر حُبيبات البخور فوق جمرٍ يشتعل…!

كتبتَ بولس القليل القليل مقارنةً بإنجازاتك. كتابكَ الوحيد الحقيقي، حياتك، ومركزها يسوع المسيح.

وصلتَ إليه من بعيد بانقلاب ساطعٍ ورجوعٍ مُدَوٍ! حياتُكَ، حلبةُ سباقٍ مثيرة. رغبةٌ وحيدةٌ جامحةٌ ألهَبَتكَ، أن تكونَ مع المسيح . عَبَرْتَها تصارع المسيح، وتتصارع معه. كنتَ مُنحنى مَطْرَقاتِه وضربات الحجر تحت إزْميلِه.

بعضُهم أعطاكَ إسمَ “ألأوَّل بعد الواحد”. وآخرون حاربوا إسمك بضراوة.

بولس رسول الأمم، الحرّ أسير المسيح، المصلوب معه. متصوّفٌ أبدًا أنت على سفرٍ. مَأكولٌ أنتَ من المسيح ومن الناس. فقهتَ لكلِّ إشارةٍ منه . مشيتَ على كلِّ طريق قادك فيها. حطّيتَ رحالَكَ في كلّ مدينة جذبك اليها هو. أوْلَدْتَ فيها جماعة مؤمنين وحَملتَها على ذراعيك. إرتحْتَ قليلًا، رسمتَ لنا بكلمات الروح ملامح وجهٍ أعاد لنا إنسانيَّتنا، الوجهَ الينبوع الذي به، نوجَد ونحيا ونتحرّك !

وقبل أن يُفصَلَ رأسُكَ عن جسدِكَ همَستَ في فخرٍ بولُسيّ، في بَوْحٍ صوفّي، في غِبطةٍ لا يَدرُك كنهَها إلّا عَمالقة الله : مُنتَشِيًا بالحُبِّ أمضي إليكَ يا حاكمًا على قلبي…

في طَرْفة عَينٍ، لن يعودَ هناك شيىءٌ مما كان، يستطيع أن يفصلَني عن حبِّك أيهّا المسيح ! حياتي هي المسيح !”

عظمةُ النهر تُعرَف من مَصَبِّه !

عن patriarchate

شاهد أيضاً

مسحة المرضى، سرّ من أجل الحياة

مسحة المرضى، سرّ من أجل الحياة الاب أدّي بابكا راعي كنيسة مار أدّي الرسول في …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.