حول التصور ان الانجيل محرّفُ!
الكاردينال لويس روفائيل ساكو
دكتوراه في آباء الكنيسة، دكتوراه في تاريخ العراق القديم، ماجستير في الفقه الإسلامي
كم من مرة سمعت منذ صغري وحتى عندما كبرت هكذا أقوال: “ان المسيحيين حرَّفوا كتابهم المقدس”! أسال من يعتقد بذلك عمَّا هي معايير تحريف النص المقدس، وما هي الادلة؟ هذا الادعاء، اساءة الى ما يقدّر بِـ 2.2 مليار مسيحي في العالم، وبأكبر ديانة على كوكبنا.
من يدعيّ هذا التحريف، يعتبر ديانته صحيحة، من دون ان يحترم حق الآخر في ان يعتقد بان ديانته صحيحة أيضاً. أقول للجميع علينا ان نحترم دياناتنا ونتحاشى جرح مشاعر بعضنا البعض، خصوصاً وان القوانين تتكلم عن احترام المعتقدات الدينيةّ!
الأنجيل موجود قبل ظهور الاسلام بأكثر من خمسمائة عام. فالقول بان الإنجيل الذي في حوزتنا محرّف غير وارد أبداً. في زمن القرآن كما هي الحال اليوم، اننا نستعمل نفس الإنجيل، بدليل إن المخطوطات القديمة (ومنها ما يعود إلى القرن الثاني الميلادي إلى جانب مخطوطات كاملة من القرن الثالث والرابع) تطابق النص الحالي. وهو نفسه متداول في جميع الكنائس المسيحية. والانجيل المقدس واسع الانتشار وقد تُرجم الى اكثر من ألفي لغة ولهجة. ولا مجال للتشكيك في صحة الإنجيل وتاريخيته، وهو من أكثر الكتب التي انكبَّ عليها النقد العلمي بالتحليل والتمحيص والمقارنة. ثم لو أن الكتاب المقدس محرَّفٌ حقاً فأين هي النسخة الأصلية التي يمكن مقارنتها بالنص الحالي لتبيان زيفه؟
انه إنجيل واحد بأربع روايات (متى ومرقس ولوقا ويوحنا) تدور حول حياة المسيح وأفعاله وتعليمه. ان جميع المسيحيين على اختلاف مذاهبهم وبلدانهم لهم نفس الإنجيل، فكيف يكون محرفاً؟ كيف يمكن ان يمتد التحريف الى كلام الله المقدس؟
من المفيد جداً إن يعلم القاريء إن بعض كبار المفكرين المسلمين أمثال: أوردن الدرامي (798-869) والرسالة الاضحوية في العماد لابن سينا (980-1037) والرد الجميل لأبي حامد الغزالي (1059-1111) والمقدمة لابن خلدون (1332-1406) ومواقف محمد عبده (1849-1905)، يؤكدون استحالة “تحريف النص” بمقتنع التاريخ، فيكتفون بالقول إن أهل الكتاب أساءوا تفسير معنى كتبهم المقدسة وترجمة معانيها الحقيقية!
اما انجيل برنابا الذي غالباً ما يستشهد به بعض المسلمين المتشددين، فهو كتاب منحولٌ لا تعترف به المسيحية، وليس له ذكر في المخطوطات التي قبل الإسلام. فيه أخطاء تاريخية وعقائدية ظاهرة لا يقبلها المسيحيون ولا المسلمون. الّفه راهب اسباني من القرن الخامس عشر اسمه ماريو بعد أن إعتنق الاسلام.
شواهد من القرآن الكريم
لقد وردت في القرآن كلمة الإنجيل عدة مرات، ويقرّه كتاباً مقدساً مع التوراة والزبور (المزامير) وهذه بعض آيات صريحة تثبت ذلك:
“وليحكم أهل الإنجيل بما انزل الله فيه ومن لم يحكم بما انزل الله فاؤلئك هم الفاسقون” (المائدة 47)؛ “قولوا آمنا بالذي انزل إلينا واليكم. وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون” (العنكبوت 45)؛ “انزل التوراة والإنجيل من قبلُ هدىً للناس” (آل عمران 2، 3)؛ “وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ” (المائدة 46)؛ “الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ” (الأنعام 20)؛ “وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نوحِي إِلَيْهِمْ ۚ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُون” (النحل 43)؛ “فَإِن كُنتَ فِي شَكٍ ممَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِن ربِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ” (يونس 94).
فإذا ارتاب أحدٌ من صحة ما يذكر به، ليسأل أهل الكتاب “لستم على شيء حتى تقيّموا التوراة والإنجيل وما انزل إليكم” (المائدة 68)؛ “والذين أتيناهم الكتاب يعلمون انه منزَّل من ربك بالحق” (الإنعام 114) .فان كانت محرَّفة كيف يسألونهم؟
ربما إستند بعض العلماء المسلمين الى هذه النصوص القرآنية بخصوص التحريف: “أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ” (البقرة 75)؛ “وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ” (آل عمران 78) وبنفس المعنى (سورةالمائدة 13).
لا نجد في هذه الأيات أية اشارة واضحة الى الانجيل، ولماذا لا تكون الاشارة الى تعدد قراءات القرآن الكريم. يذكر صحيح البخاري: “أن الصحابة لما كتبوا المصاحف أرسل عثمان إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق”. ونجد المعلومة نفسها عند الطبراني.
كما ان سورة الفاتحة (مكية) هي السورة الاولى التي نزلت على الرسول قبل الهجرة، وهي صلاة جميلة، تتصدر سور القرآن الـ 113 الاخرى، يتضرع المسلمون بتلاوتها الى الله قائلين: اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين انعمت عليهم غير المغضوب ولا الضالين (الفاتحة 4-7).
هناك من يعتقد ان “المغضوب عليهم والضالون” هم غير المسلمين.. لا توجد اية دلالة على ذلك. لماذا لا يكون النصارى هم الذين أنعم عليهم وهم اقرب الناس مودة الى الذين آمنوا (المائدة 82)؟ خصوصاً ان ورقة بن نوفل الاسدي القرشي كان مسيحيا وكذلك نسيبته خديجة بنت خويلد الاسدي القرشي زوجة الرسول. لماذا لا يكون اهل مكة الذين قاوموا النبي ورفضوا دعوته؟
في الختام لنقرأ معاً قول العلّامة عباس محمود العقاد: “سواء رجعت هذه الأناجيل: متى ومرقس ولوقا ويوحنا إلى مصدر واحد أو أكثر من مصدر، فمن الواجب إن يدخل في الحسبان أنها العمدة التي اعتمد عليها قوم أقرب الناس إلى عصر المسيح، وليس لدينا نحن قرابة ألفي سنة عمدة أحق منها بالاعتماد” (حياة المسيح، سلسلة كتاب الهلال، العدد 202، مصر 1968 ص 210).