تعليم البطريرك 10
الكتاب المقدس – قصة الحبِّ العظيم
الكاردينال لويس روفائيل ساكو
كلمة الله عِبر لغة بشرية
يضم الكتاب المقدس 73 سِفراً ، كُتِبَ على مدى 1500 سنة. الكتاب المقدس كلام الله، “كنزٌ نحملُهُ في آنية من خزف” (2 كورنثس 4/ 7)، أي كلام يُعبَّر عنه في ثقافة الإنسان وبيئته الاجتماعية واساليبه الأدبية ولغته الفقيرة، ولا سبيل لإبلاغه الى البشر بخلاف ذلك. يقول مار أفرام: “ألبَسَ نفسَه بلغتنا، ليتسنى له ان يُلبِسنا زيَّه، زيًّ الحياة. طلب شكلَنا ولَبِسَه، وبعدئذ تكلم مع حالتنا الطفولية كأبٍ مع أولاده. انها مجازٌ وليس بالمعنى الحرفي” (الإيمان 54/ 8).
الكتاب المقدس ليس كتاباً عادياً
الكتاب المقدس ليس كتاباً اعتيادياً يحتوي قصصاً مشوّقة، انما كتاب مقدَّس، يحمل معنىً مقدساً وقيمة إيمانية وحياتية للمؤمن، ويعكس تصميم الله في خلاصه. انه كلام الله المتجلّي في خبرة البشر، وتعابيرهم، لكن قوته وسلطانه مستمدان من الله نفسه: “ان الكتاب بكل ما فيه قد اوحى به الله” (2 تيموثاوس 3/ 16).
الوحي Revelation، يعني كشف الله عن ذاته وكلمته وأفعاله وتدخله في تاريخ البشر لاسيما من خلال يسوع المسيح. الوحي هو كشف حقائق لا يقدر الانسان وحده ان يكتشفها.
الإلهام Inspiration، هو فعل الروح القدس الذي ألهم أشخاصاً معينين لتدوين هذا الوحي، وليس أملاءً حرفياً، وصانهم من الخطأ.
أما مهمة تفسير كلمة الله بطريقة سليمة فهي موكلة الى السلطة الكنسية من خلال الإصغاء اليها لاكتشاف المعاني الصحيحة. والتفسير فنٌ له قواعده وتقنياته.
العهد القديم
لم ترد عبارة “العهد القديم” في الكتاب المقدس، أنما نجدها في العهد الجديد. البعض يفضّل تسميته العهد الأول والعهد الثاني. كلمة العهد (بالعبرية بيريث) تعني ميثاقاً بين الله وأولئك الذين يؤمنون به.
نجد في العهد القديم وهو تاريخ الشعب المختار، نصوصاً رمزية وتاريخية حول بدايات الإنسان المختار، وحول مصيره، ونصوصاً تشريعية – أخلاقية مثل الوصايا، ونصوصاً نبوية ونصوص صلاة مثل المزامير ونصوصاً حكمية. كلها تذكر بدون إنقطاع عهد الله مع الإنسان ومحبته له وللكون، وتصف قدرته ورحمته وبركته.
العهد الجديد
يضم العهد الجديد، الإنجيل. يوجد إنجيل واحد منسجم بهدفه ومضمونه. والإنجيل لفظة يونانية تعني بشرى (خبر سار)، كتبه أربعة أشخاص: مرقس أولاً نحو سنة 70 ثم متى نحو سنة 80 ولوقا بين سنة 80 – 90 ويوحنا بين سنة 90 – 100. كل واحد من هؤلاء الكتاب يعكس في روايته حياة يسوع واقواله واعماله بحسب ظروف جماعته في الزمان والمكان، سواء في فلسطين او روما او أماكن اخرى ليكون ينبوع حياة لهم. والإنجيل في عقيدة المسيحيين ليس كلاماً حاملاً بشرى حقيقة خلاصية فحسب، بل تعليم الهي وقوة خلّاقة تحيي وتحرر المؤمن وهو دستور حياة المسيحيين.
ويضم العهد الجديد كتاب أعمال الرسل الذي يعكس حياة الجماعة المسيحية الاولى (الكنيسة) التي بشَّرت بالانجيل في اورشليم أولاً ثم في انطاكيا وبلاد اليونان وروما.
هناك ايضاً 14 رسالة لبولس مارست دوراً مهما في الكرازة الرسولية، عالجت أوضاع الكنائس التي أسسها الرسول بنفسه أو من خلال آخرين، ورسم لها الطريق لاتباع المسيح. وتوجد رسائل لبطرس ويوحنا ويعقوب ويهوذا أخي الرب ويختم أسفار العهد الجديد سِفر الرؤيا. العهد الجديد هو ثمرة خبرة إيمان الرسل والتلاميذ الأوائل والكنيسة في سرّ الله والمسيح.
التحريف
لا يمكن ان يحرَّف الكتاب المقدس، ولا جدوى من تحريفه، فهناك مخطوطات قديمة في كافة أنحاء العالم، منها ما تعود الى سنة 150 ميلادية. وجميع المخطوطات تطابق النص الحالي المتداوَل بين جميع الكنائس المسيحية. وقد تُرجم الى حوالي الف لغة ولهجة في آسيا وأفريقيا واوربا. فلا مجال للتشكيك في صحته وهو من اكثر الكتب التي انكبَّ عليها النقد العلمي بالتحليل والتمحيص. ثم لو أن الكتاب المقدس محرَّفٌ حقاً فأين هي النسخة الأصلية التي يمكن مقارنتها بالنص الحالي لتبيان زيفه؟
الحاجة الى تأويل منهجي وعلمي
هناك مشكلة بنيوية في تأويل النصوص، والتي تتطلب تفسيراً منهجيأ وعلمياًّ لاكتشاف بلاغات النص المقدس. هذه النصوص المقدسة لا ينبغي ان تُفهَم على حرفيتها كأحداثٍ على نحو ما نفهم “الحدث” اليوم، بل انها تحمل “تعليماً مقدساً”، أي بلاغاً موجَّهاً الى الناس في كل زمان ومكان. لذا نحن بحاجة الى التفسير العقلاني المنهجي العلمي لإكتشاف بلاغات النص المقدس حتى نفهمها ونعيشها.
كيف نقرأ الكتاب المقدس؟
قراءة الكتاب المقدس لا ينبغي ان تكون كمطالعة اي كتاب. يجب ان يُقرأ بإيمان وحبّ واحترام، قراءة مصغية واعية، وليس قراءة روتينية سطحية متسرعة، قراءة تعزز الشركة بين الله والمؤمن وتجعله يشعر أن الله يكلمه.
في قراءتنا للكتاب المقدس علينا ان نبحث عن “الروح- المعنى” وليس عن الحرف “الشيء”، اي ينبغي ان نقرأه “بحسب الروح الذي دوِّنَ به” (القديس هيرونيمس)، لنكتشف المعاني المناسبة لحياتنا ومسيرتنا.
إعتمدَ معظم آباء الكنيسة في تأملهم في الكتاب المقدس البحث عن معنَيَين: المعنى الحرفي، أي التاريخي وهو متعلق بالنص كما يرّن، والمعنى الرمزي وهو متعلق بالبلاغ الذي يُراد إيصاله، نكتشفه بواسطة الروح القدس. هذا هو الهدف الذي يصبو اليه المؤمن في قراءته الربيّة lectio divina لتغذية إيمانه في مسيرته التصاعدية الى الله.
امام هذا التنوع في الاساليب والتعابير يدعو آباء الكنيسة المؤمنين لاستقبال هذا الغِنى ببساطة وحب وثقة. يقول الكاتب الفرنسي انطوان دي سانت اكزوبيري في كتابه الأمير الصغير: “لا يحسن الانسان البصر الا بقلبه، لان جوهر الأشياء يبقى خفياً عن الانظار”.
هذه القراءة تتطلب الخلوة، والصلاة، والصمت، واخلاء الذات للامتلاء والتواصل. يقول اوريجانُس: “لا أحد يقدر ان يسمع كلمة الله الا اذا كان قد تقدَّس أولاً” (موعظة في الخروج 7 و 11).
قراءات الكتاب المقدس في الليتورجيا
قراءات من الكتاب المقدس بعهديه، أساسيّة في الاحتفال باللتورجيا التي يحضَرها عدد كبير من الناس، خصوصاً في الآحاد والأعياد. علينا ان نقدم لهم نصوصاً قصيرة مختارة بدقة، وافية المعنى، ومنسجمة مع بعضها مما يسهّل إكتشاف معناها الحقيقي لتغذية إيمانهم في الحياة اليومية.
هذه النصوص تعليم إلهي بمضمونها وجمالها، اي انها بمثابة إعلان، ممَّا يستدعي ان يخلق قارئ النص (الشماس أو الشماسة) تفاعلاً بين النص والمشاركين، وكأنه شريك في الإعلان، وليس قراءة جامدة ومتسرعة. ينبغي ان يشعر المشارك بان كلمة الله هذه موجَّهة اليه شخصياً، لتغدو لهم مصدر بركة ونعمة وسلام.