محاضرات في العهد القديم (سفر الخروج)
“فَأجْعَلَكَ أُمَّةً عَظِيمَةً وَأُبَارِكَكَ وَأُعَظِّمَ اسمكَ وَتَكُونَ بَرَكَةً” (تك 12: 2)
اللّقاء الحادي عشر
المُقدمة
أكد الكاتب المُلهَم لقصّة الخروج أن الله هو القائد الحقيقي للشعب، وأن دور موسى اقتصرَ على تنفيذ إرادة الله وتوجيه الشّعب إلى يُريده منهم عبر إصغائه (موسى) إلى تدابير الله الذي أشرفَ على نحوٍ مُباشر على تفاصيل رحلة الخروج، “فَأدَارَ الله الشّعب فِي طَرِيقِ بَرِّيَّةِ بَحْرِ سُوفٍ” (خر 13: 18)، ثم أمرَ موسى بأن “يَرْجِعُوا وَيَنْزِلُوا أمَامَ فَمِ الْحِيرُوثِ بَيْنَ مَجْدَلَ وَالْبَحْرِ أمَامَ بَعْلَ صَفُونَ” (خر 14: 2)، عارفاً بمعنويات الشّعب ومواقفهم التي لا تؤهلهم للدخول في أيّ مواجهات عسكرية، فما زالت ذهنية العبيد تتحكّمُ في مشاعرهم وتصرفاتهم، مثلما يعرِف أفكارَ فرعون وعناده. االله هو المُبادِر والمُخطِّط والمُدبّر، وستحمل المواجهة الأخيرة ضد فرعون وجيشه تعليماً لهم، وللعالم أجمع، أن الله هو الإلهُ الحق وبه وحده يليقُ التعبّد، وكلّما قسّى الإنسان قلبهُ تجاه الله، كلّما عظُمَ مجدُ الله، فهزيمةُ فرعون، ستُعلنَ على لسانِ جيشه: “فَقَالَ الْمِصْرِيُّونَ: “نَهْرُبُ مِنْ إسرائيل لأنَّ الرَّبَّ يُقَاتِلُ الْمِصْرِيِّينَ عَنْهُمْ” (خر 14: 25)، وسيحتفل الشّعب مرنماً بهذا الانتصار مُمجدِّاً ومُعظِّماً قُدرة الله (التعبّد)، وشاهداً لها في العالم مثلما أعلنَ من قبلُ: “وَلَكِنْ لأجْلِ هَذَا أقَمْتُكَ لأارِيَكَ قُوَّتِي وَلِيُخْبَرَ بِاسمي فِي كُلِّ الأرض.” (خر 9: 16)
ما قبلَ عبورِ البحرِ (خر 14: 1- 19)
بدأت رحلة الخروج (12: 37- 39)، لكنها لم تنتهِ بعدُ، فالله يعرِف أن فرعون يرغبُ في التحرّك ضد إرادتهِ ولم يرفع الراية البيضاء بعدُ، ويريد عرقلة خروج الشّعب، فأمرَ الله موسى بأن يُشير إلى الشّعب ليأخذوا طريقاً آخر: “كَلِّمْ بَنِي إسرائيل انْ يَرْجِعُوا وَيَنْزِلُوا أمَامَ فَمِ الْحِيرُوثِ بَيْنَ مَجْدَلَ وَالْبَحْرِ أمَامَ بَعْلَ صَفُونَ. مُقَابِلَهُ تَنْزِلُونَ عِنْدَ الْبَحْرِ. فَيَقُولُ فِرْعَوْنُ عَنْ بَنِي إسرائيل: هُمْ مُرْتَبِكُونَ فِي الأرض. قَدِ اسْتَغْلَقَ عَلَيْهِمِ الْقَفْرُ. وَأشَدِّدُ قَلْبَ فِرْعَوْنَ حَتَّى يَسْعَى وَرَاءَهُمْ. فَأتَمَجَّدُ بِفِرْعَوْنَ وَبِجَمِيعِ جَيْشِهِ وَيَعْرِفُ الْمِصْرِيُّونَ أنِّي أنَا الرَّبُّ”. فَفَعَلُوا هَكَذَا. (خر 14: 2- 4)
معرفة المصريين أن الرّبَّ هو الإله وله وحده يحقُّ الإكرام، هو واحد من أهم دروس القصّة، وهو الذي يدع الإنسان يسلكُ أمامه بحرية متحملاً مسؤولية قراراتهِ وينالُ الجزاء العادل من جرّاء عنادهِ، لتتحقّق العدالة، وبالتالي نحن مدعوون إلى أن نكره الشر: “يَا مُحِبِّي الرَّبِّ أَبْغِضُوا الشَّرَّ. هُوَ حَافِظٌ نُفُوسَ أَتْقِيَائِهِ. مِنْ يَدِ الأَشْرَارِ يُنْقِذُهُمْ” (مز 97: 10)، وعلينا مواجهتهُ (الشر) أينما حصلَ لتكون الأرض مثلما أرادها الله أن تكون، مكاناً حسناً للعيش، واثقين في حكمةِ الله وعدله ومُتيقنينَ أن الأشرار سيواجهون تبعات أفعالهم: “وَيَعْرِفُ الْمِصْرِيُّونَ أنِّي أنَا الرَّبُّ”، فوقوع الشّر ليس مناسبة للمُناقشة والمُحاججة في محاولة التعرّف على الأسباب، فمثلُ هذه المحاولة ستؤول حتماً إلى ظاهرة القبول بالشر ومحاولة التعايش معه، عوض مواجهته ومحاربته بكلّ الطاقات والإمكانيات المُتاحة كما فعل ربنا يسوع:
“وَفِيمَا هُوَ مُجْتَازٌ رَأَى إِنْسَاناً أَعْمَى مُنْذُ وِلاَدَتِهِ. فَسَأَلَهُ تلاَمِيذُهُ: “يَا مُعَلِّمُ مَنْ أَخْطَأَ: هَذَا أَمْ أَبَوَاهُ حَتَّى وُلِدَ أَعْمَى؟” أَجَابَ يَسُوعُ: “لاَ هَذَا أَخْطَأَ وَلاَ أَبَوَاهُ لَكِنْ لِتَظْهَرَ أَعْمَالُ الله فِيهِ. يَنْبَغِي أَنْ أَعْمَلَ أَعْمَالَ الَّذِي أَرْسَلَنِي مَا دَامَ نَهَارٌ. يَأْتِي لَيْلٌ حِينَ لاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَعْمَلَ. مَا دُمْتُ فِي الْعَالَمِ فَأَنَا نُورُ الْعَالَمِ”. قَالَ هَذَا وَتَفَلَ عَلَى الأرض وَصَنَعَ مِنَ التُّفْلِ طِيناً وَطَلَى بِالطِّينِ عَيْنَيِ الأَعْمَى. وَقَالَ لَهُ: “اذْهَبِ اغْتَسِلْ فِي بِرْكَةِ سِلْوَامَ”. الَّذِي تَفْسِيرُهُ مُرْسَلٌ. فَمَضَى وَاغْتَسَلَ وَأَتَى بَصِيراً”. (يو 9: 1- 7)
في قصّة الخروج، أكّد الرّاوي على أن الله هو سيّد التاريخ وهو الذي يُسيّر الأحداث، فأعطى انطباعاً لفرعونَ أنَّ الشّعب تائهٌ في الصحراء، ونصبَ الله فخّاً له، وسقطَ فرعون في هذا الفخ، ليكشِف مرّة أخرى عن أنه لا يستحق قيادة شعبه لأنه لا يمتلكُ القُدرة على السيطرة على مشاعره الشخصية والتي تتعأرض وسلامة شعبه، وغير قادرٍ على تمييز تحرّكات الآخرين، فلاحقَ فرعون الشّعب في الصحراءِ ليُعيدهم إلى خدمته، متوهّماً أنهم مُلكهُ هو، وهو الأولى بهم من الله، فشدّ مركبتهُ بنفسه وأخذ معه ستمئة مركبة في مواجهةٍ أخيرة مع شعب الله الذي لم يكن مُستعدّاً لمثل هذه المواجهة العسكرية.
فوضى في معسكرِ العبرانيين
في الجهة المقابلة، عمّـت الفوضى بين العبرانيين، فبعدما تركوا مصر خلفهم، ارتعبوا عندما سمعوا أن فرعون وجيشهُ يتعقبونهم، فصرخوا إلى الربّ وكلّموا موسى: “هَلْ لأنَّهُ لَيْسَتْ قُبُورٌ فِي مِصْرَ أخَذْتَنَا لِنَمُوتَ فِي الْبَرِّيَّةِ؟ مَاذَا صَنَعْتَ بِنَا حَتَّى أخْرَجْتَنَا مِنْ مِصْرَ؟ ألَيْسَ هَذَا هُوَ الْكَلامُ الَّذِي كَلَّمْنَاكَ بِهِ فِي مِصْرَ قَائِلِينَ: كُفَّ عَنَّا فَنَخْدِمَ الْمِصْرِيِّينَ لأنَّهُ خَيْرٌ لَنَا أنْ نَخْدِمَ الْمِصْرِيِّينَ مِنْ انْ نَمُوتَ فِي الْبَرِّيَّةِ” (خر 14: 11- 12). الجميع يعرف أن لمصرَ مقابرَ عظيمةً، كما ويعرف الشّعب قساوة فرعون ومقاصده الشريرة أكثر من معرفتهم بنوايا الربِّ الخيّرة، فاتّهموا موسى بتجاهُلِهم، وبدا لهم أن شرَّ فرعونَ أقربُ إليهم من خيرِ الله.
لنا أن نتصوّر مشهدَ الفوضى، أحدهم يصرخ: “نحنُ المُخطئونَ لأننا صدّقناكَ إذ قلت إن الله حدّثَك، وها نحن سنموتُ كالجرذان، بل نُقدَّم ذبائحَ لفرعونَ أو في أحسن الأحوال، نغرقُ في هذا البحرِ الهائج كهيجان غضب فرعونَ والمصريين علينا”. غيره نادى: “اتركوا هذا الشيخ الخَرف، وتعالوا نرفع الرايات البيضاء لعلّ قلب فرعون يحنُّ علينا ويقبلنا خُدّاماً له، ولنرسل إلى فرعونَ وفداً يتفاوضُ على العودة”. وآخر قال: “عنادكَ يا موسى أصلبُ من عنادِ فرعونَ، وهو أوصَلَنا إلى التهلكةِ، قُم دبّر أمرنا يا موسى”. ولربما قامَ مُحاربٌ ليُشجّع الشّعب: “المصريون أقوى منّا، ولكننا مُسلَّحونَ فلنختم حياتنا بشرفٍ نَمُت أبطالاً ونُمِت بعضاً من أعدائنا!” وهكذا تعالت الأصواتُ بين مؤيدة لموسى، وهي قليلة، بل ضعيفة، وأخرى صاخبة مُتخبّطة، تحاول التحّرك يميناً ويساراً في محاولة لتجنّب الموت المُهلِك!
نتفّهمُ حالة الفزع التي عمّت صفوفَ الشّعب، وعقلية العبيد التي تتحكّم في مواقفهم، ونفهم لماذا لم يدخل هذا الجيل أرض الميعاد، أرض الحُرية، فهم ليسوا قادرين على الدفاع عنها، بل فضّلوا خدمة المصريين وتحمّل عذاباتهم وقتل المواليد الذكور على مواجهة فرعون وجيشهِ. هنا، جاءت كلمات موسى مُعزِّية: “لا تَخَافُوا. قِفُوا وَانْظُرُوا خَلاصَ الرَّبِّ الَّذِي يَصْنَعُهُ لَكُمُ الْيَوْمَ. فَإنَّهُ كَمَا رَأيْتُمُ الْمِصْرِيِّينَ الْيَوْمَ لا تَعُودُونَ تَرُونَهُمْ أيْضاً إلى الأبَدِ. الرَّبُّ يُقَاتِلُ عَنْكُمْ وَأنْتُمْ تَصْمُتُونَ” (خر 14: 13- 14). لا تخافوا، فالله إلى جانبنا، بل سيُقاتِل عنّا، لذلك، اُثبتوا في الإيمان وتأهّبوا، لا للقتال، بل لتنظروا خلاص الربّ الذي سيُحرِّركُم من العبودية، وسترون ذلك بأعينكم، فاهدؤوا، وقد ألهمت هذه العبارة: “قِفوا، وانظروا” … “وأنتم تصمتون”، واضعي القداس في الطقس الكلداني ليضعوا هذه العبارة على لسان الشماس قائلا: “قفوا بصمتٍ وصلّوا السلام معنا”، فذبيحة الأبن هي فعل الله الخلاصيّ، وعلينا أن نكون متأهّبين لقبولها بصمتٍ وتوقير زتقديم الشُّكر والتعظيم إلى الله الآب خالقنا وفادينا.
عرف موسى أن هذا الشّعب عانى الكثير بسبب العبوديةِ، وهو يتفهّم خوفهم، لذا، لم يدِنهم ولم يُوبّخهم على شكواهم، ولم يُرسلهم إلى خيامهم ليُفكّر فيما يجب عملهُ، ولم يقم بتسليحِ الشّعب وتحضيره للقتال، كما لم يُدبّر قضيةَ الانسحاب أو التفاوض للاستسلام، والأهم في كل هذا أنّه لم يكشِف عن مخاوفهِ أمام الشّعب، بل صرخَ إلى الله يطلب العون، فعليه اتكاله، ووجَّههَ الله إلى أن يمُدّ عصاه ليُبيّنَ قدرة الله، فهو مُكَّلفٌ بقيادة الشّعب وعليه، كمُتقدِم المسيرة، أن يجد الحلول لا أن يتشكّى مثلهم: “مَا لَكَ تَصْرُخُ إلَيَّ؟ قُلْ لِبَنِي إسرائيل أنْ يَرْحَلُوا. وَارْفَعْ أنْتَ عَصَاكَ وَمُدَّ يَدَكَ عَلَى الْبَحْرِ وَشُقَّهُ فَيَدْخُلَ بَنُو إسرائيل فِي وَسَطِ الْبَحْرِ عَلَى الْيَابِسَةِ. وَهَا أنَا أشَدِّدُ قُلُوبَ الْمِصْرِيِّينَ حَتَّى يَدْخُلُوا وَرَاءَهُمْ فَأتَمَجَّدُ بِفِرْعَوْنَ وَكُلِّ جَيْشِهِ بِمَرْكَبَاتِهِ وَفُرْسَانِهِ. فَيَعْرِفُ الْمِصْرِيُّونَ أنِّي أنَا الرَّبُّ حِينَ أتَمَجَّدُ بِفِرْعَوْنَ وَمَرْكَبَاتِهِ وَفُرْسَانِهِ”. (خر 14: 15- 18).
عبورُ البحر الأحمر
“فَانْتَقَلَ مَلاكُ الله السَّائِرُ أمَامَ عَسْكَرِ إسرائيل وَسَارَ وَرَاءَهُمْ وَانْتَقَلَ عَمُودُ السَّحَابِ مِنْ أمَامِهِمْ وَوَقَفَ وَرَاءَهُمْ. فَدَخَلَ بَيْنَ عَسْكَرِ الْمِصْرِيِّينَ وَعَسْكَرِ إسرائيل وَصَارَ السَّحَابُ وَالظَّلامُ وَأضَاءَ اللَّيْلَ. فَلَمْ يَقْتَرِبْ هَذَا إلى ذَاكَ كُلَّ اللَّيْلِ” (خر 14: 19- 20). انتقال عمود السحاب من أمام الشّعب إلى خلفهم كان تدبيراً من الله ليُخفي الشّعب عن عيون أعدائهم، فواصلَ الشّعب السير باتجاه البحر الذي هو تحت سيطرة الله، فأرسل الربّ ريحاً شرقية عليه، وهيأ لهم يابسةً ليسيروا عليها، هو الخالق الذي فصل المياه وأبدع اليابسة في البدءِ: “لِيَكُنْ جَلَدٌ فِي وَسَطِ الْمِيَاهِ. وَلْيَكُنْ فَاصِلاً بَيْنَ مِيَاهٍ وَمِيَاهٍ” (تك 1: 6)، وكأن الكاتِبَ المُلهَم يُريد أن يقول لنا: هوذا نحن أمام خلقٍ جديد، فإسرائيل هو الخليقة المُفتداة، ومثلما أبدعَ الله ما هو حسنٌ جداً من الفوضى الأولى في الخلق، سيُبدِع خليقةً حسنةً من الفوضى التي سببها عصيانُ الإنسان وعناده، الذي يبقى رغم عصيانه، حُرّاً أمام الله، ليُقرر، بملء إرادتهِ، مواصلة السير نحو البحرِ أو العودة الاستسلام لفرعون.
اختار الشّعب مواصلة المسيرة على اليابسة، تحت جُنحِ الظلام مؤمنين أن هناك عيوناً تسهر على سلامتهم، وتبعهم المصريون، وهو ما توقعّه الربّ مُسبقاً، ولكنهم وجدوا مع بزوغ الصبحِ صعوبة في تسيير مركباتهم: “وَكَانَ فِي هَزِيعِ الصُّبْحِ أنَّ الرَّبَّ أشْرَفَ عَلَى عَسْكَرِ الْمِصْرِيِّينَ فِي عَمُودِ النَّارِ وَالسَّحَابِ وَأزْعَجَ عَسْكَرَ الْمِصْرِيِّينَ. وَخَلَعَ بَكَرَ مَرْكَبَاتِهِمْ حَتَّى سَاقُوهَا بِثَقْلَةٍ. فَقَالَ الْمِصْرِيُّونَ: “نَهْرُبُ مِنْ إسرائيل لأنَّ الرَّبَّ يُقَاتِلُ الْمِصْرِيِّينَ عَنْهُمْ”. (خر 14: 24- 25) وهكذا أخزى الله المُستكبرين، ونصرَ المتواضعين مُتذكّراً عهدهُ لإبراهيم كما أنشدت أُمنّا مريم (لو 1: 51- 55).
سمعَ الشّعب أصواتاً في معكسرِ المصريين ولم يُميّزوا الفوضى التي صارت بينهم. علِقت عرباتهم في الأرض مما يعني صعوبةَ القتالِ، وعدم القُدرة على العودة إلى الخلف، فيما واصلَ الشّعب سيره ولم يعد أحد لمُقاتلة المصريين المتورطينَ في مشكلات كثيرةٍ، مع أنه كانت خياراً قائماً للانتقام. عناد المصريين جعلهم يتعقبونَ الشّعب وقد أضمروا لهم شراً، ليقضوا على الحياة الحُرّة التي صارت لهم ويُدمّروا ما يُريده الله للعالم. هكذا وقفوا مُعأرضين لا متعاونين، وقادتهم مُعأرضتهم وقساوةُ قلوبهم إلى خزيهم ودمارهم الأخير.
“وَنَظَرَ إسرائيل الْمِصْرِيِّينَ أمْوَاتاً عَلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ. وَرَأى إسرائيل الْفِعْلَ الْعَظِيمَ الَّذِي صَنَعَهُ الرَّبُّ بِالْمِصْرِيِّينَ. فَخَافَ الشّعب الرَّبَّ وَآمَنُوا بِالرَّبِّ وَبِعَبْدِهِ مُوسَى”. (خر 14: 30- 31) هم يؤمنون بوجوده، ولكنهم الآن اختبروا على نحو شخصيّ حضورهُ معهم، وأنّه أمينٌ في وعدهِ الذي قطعهُ لآبائهم، مثلما قال الرّاوي في بدءِ القصّة: “وَتَنَهَّدَ بَنُو إسرائيل مِنَ الْعُبُودِيَّةِ وَصَرَخُوا فَصَعِدَ صُرَاخُهُمْ إلى الله مِنْ أجْلِ الْعُبُودِيَّةِ. فَسَمِعَ الله أنِينَهُمْ فَتَذَكَّرَ الله مِيثَاقَهُ مَعَ إبْرَاهِيمَ وَإسحق وَيَعْقُوبَ”. (خر 2: 23- 24)
علينا ألاّ ننسى الدور الذي قام به موسى في تنفيذ كلّ ما طلبهُ الله منه من أجل تأمين قيادة آمنةٍ للشعب وإيصاله إلى برّ الأمان. صلابة إيمان موسى بالله، جعلت الشّعب يثقُ به ويواصِل المسيرة، فكان له التحرير، بل حياة جديدة على الضفةِ الأخرى من النهر، فلا عودة إلى مصرَ العبودية بعد الآن، فالله افتداهم وأنعمَ عليهم بخلقٍ جديد مع تباشير الصباح، ليس هذا فحسب، بل كان هذا الخلقُ فرصة للدينونة لكلِّ مَن لم يؤمِن به، وعندما رأى الشّعب كلّ هذا، أنشدوا للربِّ نشيد شُكرٍ يُعلنونَ فيه قُدرة الله.
نشيدُ الانتصار
يُقدم لنا الكتاب المُقدس أحد أقدم المزامير الذي جَمعَ مزمورين قديمين، الأول نشيدُ مريم (خر 15: 21)، والثاني نشيد موسى (خر 15: 1-18) والذي يُعد إسترسالاً لما أنشدتهُ مريم. وإذا كُنّا نتعامل مع الفصول (1- 15) كوحدة بنائية واحدة فسيكون لمريم وللنساء دورٌ مُتميّز فيها. ففي بدء القصة تعاونت امرأتان مع الله في حفظِ مواليد بني إسرائيل (1: 17- 18)، وتقف مريم في خاتمةِ هذه القصة، وقد خرجت جميع النساء وراءها بدفوفٍ ورقصٍ، لتُنشِد خلاصَ الله وانتصاره (15: 20- 21)، مع النساء اللواتي آمنَّ بخلاص الربّ فأخذنَ معهنَّ الدفوف قبل أن يُغادِرنَ أرض مصر على عُجالةٍ ليُنشدنَ ويرقصنَ فرحاً بالانتصار الإلهي.
يحكي نشيد الانتصار ردّة فعل الشّعب على عمل الله الخلاصِيّ في حياتهِم، فالصلاة هي فعلُ استجابةٍ وليست مُبادرة من الإنسان، ولكن لا يُمكن تجاهل نشيدُ الإنسان الذي يُعرِّف العالم بما صنعهُ الله أيضاً، فالخلاص صارَ حقيقةً بفضل مُبادرة الله واستجابة الإنسان الذي آمن بالله وهابهُ، ووثقَ بكلام نبيّه موسى، واحتفلَ فرحاً بالخلاص الذي صارَ له، وجسّد ذلك في طقوس احتفالية الفصح مُستذكراً قصّة الخلاص.
محاضرات في العهد القديم (سفر الخروج)
“فَأجْعَلَكَ أُمَّةً عَظِيمَةً وَأُبَارِكَكَ وَأُعَظِّمَ اسمكَ وَتَكُونَ بَرَكَةً” (تك 12: 2)
اللّقاء الثاني عشر
المُقدمة
ختمَ نشيد الانتصار )خر 15: 1- 21)، فصلاً من حياة الشّعب تعرّفنا من خلالهِ على سمات تدخّل الله في التاريخ البشري، إذ يرفعُ الإنسان تضرّعه للَّه شاكياً واقعهُ المُزري (خر 2: 23- 25)، ثم تأتي كلمةُ الله لتعترِف بواقع الإنسان المُتضرِّع فيُعطي الله توجيهاً وتعليماً (خر 3: 1- 7: 7)، ثم يتدخّل الله مخلِّصاً وفادياً (خر 7: 18- 25)، فيُحفّز في الإنسان عبارات الشّكر والعرفان (خر 15: 1- 21). فلولا تدخّل الله لما كان للإنسان أن ينعمَ بالحياة الكريمة، فهذا الشّعب لم يكن يحظى بأبسط مقومات العيش الكريم، وكانت حياته مُهدّدة بالزوال في أي لحظة بسبب قرار حاكم طاغية، فتدخّل الله ومنحهم حياةً من العدم. في تدخّل الله هذا، يبقى الإنسان مسؤولاً عن اختياراتهِ، فليس هناك قَدَرٌ إلهي يوجّه الأحداث، بل يتطلّع الله دوماً إلى تعاون الإنسان معه، فيتمجّد اسم الله (خر 14: 18)، ويعرِف العالم أنَّ للشّعب إلهاً قديراً (خر 15: 14- 16)، وينعمُ الإنسان بالفرح.
هكذا، احتفلَ موسى وأختهُ مريم بالانتصار الذي صارَ لهم نعمةً من الله الذي سمِعَ إلى تنهّدِ الشّعب وتضامن معه في معاناته وأنقذهِ من الإضطهاد وإختيارهِ لهم ليكونوا مسكناً له ومَقدِساً ليملُكَ عليهم إلى الأبدِ، فرتّلَ موسى: “الرَّبُّ قُوَّتِي وَنَشِيدِي وَقَدْ صَارَ خَلاصِي. هَذَا إلَهِي فَامَجِّدُهُ الَهُ أبِي فَارَفِّعُهُ” (خر 15: 2). هذا الانتصارٌ دفعَ مريم إلى الرقص، وهي حركةٌ عفويةٌ تحت قيادةِ روحِ الفرحِ والغبطة الذي يملأ الإنسان، عندما يفقد القُدرة على أن يعبّر عن الفرح الذي يختبرهُ بوسائل أخرى.
هذا الفرح اختبرتهُ الكنيسة الأولى عندما أقامَ الله رّبنا يسوع المسيح من بين الأموات، فمع المسيح صارت للإنسانية حياةً جديدة: “ثُمَّ رَأَيْتُ سَمَاءً جَدِيدَةً وَأرضاً جَدِيدَةً، لأَنَّ السَّمَاءَ الأُولَى وَالأرض الأُولَى مَضَتَا، وَالْبَحْرُ لاَ يُوجَدُ فِي مَا بَعْدُ. … هَا أَنَا أَصْنَعُ كُلَّ شَيْءٍ جَدِيداً”. وَقَالَ لِيَ: “اكْتُبْ، فَإِنَّ هَذِهِ الأَقْوَالَ صَادِقَةٌ وَأَمِينَةٌ”. (رؤ 21: 1، 5) وهو غرض الله من تدخلّه في التاريخ البشري، أن يفدي خليقتهُ من اللاظم والخطيئة، ليمنحها صباحاً جديداً، حياة جديدة وغفراناً أكيداً.
بدء رحلة البرية
عبرَ الشّعب البحر الأحمر من دون استخدام السلاح الذي كان لديهم عندما خرجوا من مصرَ: “وَصَعِدَ بَنُو إسرائيل مُتَجَهِّزِينَ مِنْ أرض مِصْرَ” (خر 13: 18). وقبلَ أن نواصل رحلتنا مع الشّعب العبراني، لابدّ لنا من التأكيد على فكرة النص التي باتت واضحةً الآن، وهي أن عبودية مصرَ ليست حادثةً تاريخيةً فحسب، بل حادثةً واقعيةً نختبرها يومياً. مصرُ ليست موقعاً جغرافياً فحسب، بل حالةً نعيشها يومياً. تعوّد الإنسان على التعايش مع حالةِ الظلمِ والاستعباد سواء كان ضحية الظلمِ أو مُسبّبهُ. وهكذا، يقرأ المؤمن حالتهُ بنظرةٍ لاهوتية، بعيون الله، ليقولَ لنا إن تجربةَ عبودية مصر موجودةٌ فينا دوماً، إنها حالةُ التنافس القاتل الذي يعيشهُ الناس يومياً، التهافت على السلطة والحطّ من كرامة الآخرين في سبيلها، بل يسعى الإنسان لإهلاكِ الآخر وتدميره ليبلغ غاياتهِ. فمصرُ تعني كل حالات الاستغلال والظلم وجبروت المُتسلِّط ذي النفوذ القوي.
أما أرض الميعاد فهي أرض الأخوَّةِ والبر والعدالة والتضامن الإنساني. أرض يُسمع فيها لصوتِ البُكاء، مثلما يُسمعَ فيها لتراتيل الفرحِ. أرض نتلمّسُ فيها تضامن الأخوة في العملِ معاً من أجل عيشٍ حسن، مثلما نرى فيها تجمّع إخوةٍ يرقصونَ فرحين ببشارة التحرير التي صارت لهم من قِبلِ الله الذي يُناديهم ويدعوهم إلى أن يعترفوا به إلهاً وحيداً، فلا يُقّدمونَ ذبائح، مادية أو معنوية، لأي سُلطةٍ بشرية كانت، كما لا يتحسّرون على ماضٍ مُلطّخ بدم الأبرياء، وفي وسعنا القول إننا جميعاً نتأرجحُ في حياتنا ما بين مصرَ وأرض الميعاد.
ولكن بين مصرَ وأرض الميعاد هناك البرية، حيث لا يلحظُ الشّعب طرقاً ممهَّدة، وهم عُرضة لقُطاّع الطرق وعصابات السّلب، وعليهم أن يُظهروا إيماناً بالله الآب الذي سيُوجههم ليصلوا أرض الميعادِ، وهكذا ستكون البرية مكانَ اختبار أمانةِ الشّعب وثباتهِ، وتكون الوسط الذي يقف بين أقصيين: العبودية أم الحرية، التنافس أم التضامن، الظلم أم الأخوّة، آلهة مصر أم إلهُ العهد الآمين.
صعوبات في الطريق
وجَد الشّعب نفسهُ في البرية التي لم تكن تحت سيطرةِ فرعونَ، ولكنها حملت مغامرةً، بل مجازفةً كبيرة كونها لا تُؤمّن مقومات الحياة: الماء، الغذاء والأمان. وهذا يعني أن على الشّعب مواجهة الموت في كلّ لحظةٍ، والاتكال على تدبير الله فمنهُ وفيه الحياة، وهي دعوة تحمل معها تحديّات جمّة، وعلى الشّعب الاختيار ما بين العيش عبيداً مُطمئنين في مصر، ففيها مقّومات العيش، حتّى لو كان بأقل المستويات الممكنة، أو العيش أحراراً مسؤولين عن اختياراتهم الحياتية.
هناكَ حاجةٌ ماسةٌ إلى الماء الصالح للشرب والذي لا يُمكن أن يُخلَق أو يُصنّعَ في البرية، بل يُوهَب من قبل الله ويُقبَل بعرفان بالجميل. أمام هذه الأزمةِ، وهي الأولى من أربع أزمات واجهها الشّعب في البرية، بيّن الشّعب كم أن إيمانه هش، وكم أن الله صبورٌ ووفيٌّ للعهدِ، بل سخيّ في العطاء، فلم يهبهم عينَ ماء واحدة فحسب، بل إثنتا عشرة: “ثُمَّ جَاءُوا إلى ايلِيمَ وَهُنَاكَ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنَ مَاءٍ وَسَبْعُونَ نَخْلَةً. فَنَزَلُوا هُنَاكَ عِنْدَ الْمَاءِ.” (خر 15: 27)
خلقت هذه الحالة أزمةَ قيادةٍ، إذ بدأ الشّعب يتذمّر على موسى: “فَجَاءُوا إلى مَارَّةَ. وَلَمْ يَقْدِرُوا أنْ يَشْرَبُوا مَاءً مِنْ مَارَّةَ لأنَّهُ مُرٌّ. لِذَلِكَ دُعِيَ اسمهَا “مَارَّةَ”. فَتَذَمَّرَ الشّعب عَلَى مُوسَى قَائِلِينَ: “مَاذَا نَشْرَبُ؟” فَصَرَخَ إلى الرَّبِّ. فَأرَاهُ الرَّبُّ شَجَرَةً فَطَرَحَهَا فِي الْمَاءِ فَصَارَ الْمَاءُ عَذْباً. هُنَاكَ وَضَعَ لَهُ فَرِيضَةً وَحُكْماً وَهُنَاكَ امْتَحَنَهُ” (خر 15: 23- 25). فبعد ثلاثة أيامٍ فقط نسي الشّعب العملَ العظيمَ الذي صنعه الرّب، وتخلّوا عن إيمانهم بالرب وموسى (خر 14: 31)، وهذا هو حال الناس إذ تنسى بسرعة الخير الذي اختبرته مع كل أزمةٍ تواجههم بتحدياتها.
لم يغضب الله من طلب الشّعب، فهو طلبٌ مُستَحَق: “فَأرَاهُ الرَّبُّ شَجَرَةً فَطَرَحَهَا فِي الْمَاءِ فَصَارَ الْمَاءُ عَذْباً” (خر 15: 25). صحيحٌ أن خشبة صغيرة الحجم جعلت المياه صالحة للشرب، إلاّ أن الله وجّه انتقاداً مُبطَّناً لهم: “إنْ كُنْتَ تَسْمَعُ لِصَوْتِ الرَّبِّ إلَهِكَ وَتَصْنَعُ الْحَقَّ فِي عَيْنَيْهِ وَتَصْغَي إلى وَصَايَاهُ وَتَحْفَظُ جَمِيعَ فَرَائِضِهِ فَمَرَضاً مَا مِمَّا وَضَعْتُهُ عَلَى الْمِصْرِيِّينَ لا أضَعُ عَلَيْكَ. فَإنِّي أنَا الرَّبُّ شَافِيكَ” (خر 15: 26)، فلا يكفي أن يُرنِّم الإنسان ويرقص فرحاً بخلاص الله، بل عليه أن يسمع لصوتِ الربّ، ويصنعَ الحقَّ ويحفظ وصاياهُ، فمع بدء الرحلة في البرية، يُعلِن الله للشعب أنّه حررهم من عبودية فرعون، ليكونوا في خدمةِ تدبيره، ووضعَ أحكاماً وفرائِضَ وينتظرُ عبرها من الإنسان أن يسمعَ وأن يسيرَ باستقامةٍ ويُصغي إلى وصاياهُ، فهذه هي التي تقودُ إلى حياةٍ آمنةٍ لا ظُلمَ فيها فلن تعودَ مصرُ بفرعونها لتفتِكَ بحياة شعبِ الله. وهكذا، عبر السّماعِ والإصغاء والسير باستقامةٍ، يجد الشّعب الحياةَ الهانئةَ: إثنتي عشرَة عينَ ماءٍ، كما ويتجنّب عُنفَ مصرَ وضرباتها. فعلى الشّعب أن يسمعوا له ويطيعوهُ ليُظهروا صِدقَ إيمانهم، ويشهد الشعب في حياتهِ اليومية على هذا الإيمان: “وَبِهَذَا نَعْرِفُ أَنَّنَا قَدْ عَرَفْنَاهُ: إِنْ حَفِظْنَا وَصَايَاهُ. مَنْ قَالَ قَدْ عَرَفْتُهُ وَهُوَ لاَ يَحْفَظُ وَصَايَاهُ، فَهُوَ كَاذِبٌ وَلَيْسَ الْحَقُّ فِيهِ” (1 يو 2: 3-4).
هذا لا يعني أن كلّ الذين يسمعون لصوت الرب ويحفظون الوصايا لن يعانوا من الأمراض، فحفظ الوصايا نفسه يهبُ الإنسان صحّةَ الروح، وتكريس يوم للربّ، على سبيل المثال، والابتعاد عن همومِ العمل ومشكلاته، وقضاءُ وقت هادئ مع العائلة والأصدقاء وتقديم الشّكر للَّه، يُنعِشُ الجسد ويُبعد الإنسان عن التوتّر والقلق مؤمناً أن الله الآب دبّر له عيشاً كريماً، وهو شريكٌ مسؤول عن إدامةِ هذه النعمةِ، كما، ويؤمِن أن الله سيهب له الحياة الأبدية كما علّم ربّنا يسوع:
“وَفِيمَا هُوَ خَارِجٌ إلى الطَّرِيقِ رَكَضَ وَاحِدٌ وَجَثَا لَهُ وَسَأَلَهُ: “أَيُّهَا الْمُعَلِّمُ الصَّالِحُ مَاذَا أَعْمَلُ لأَرِثَ الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ؟” فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: “لِمَاذَا تَدْعُونِي صَالِحاً؟ لَيْسَ أَحَدٌ صَالِحاً إلاَّ وَاحِدٌ وَهُوَ الله. أَنْتَ تَعْرِفُ الْوَصَايَا: لاَ تَزْنِ. لاَ تَقْتُلْ. لاَ تَسْرِقْ. لاَ تَشْهَدْ بِالزُّورِ. لاَ تَسْلِبْ. أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ”. فَأَجَابَ: “يَا مُعَلِّمُ هَذِهِ كُلُّهَا حَفِظْتُهَا مُنْذُ حَدَاثَتِي”. فَنَظَرَ إِلَيْهِ يَسُوعُ وَأَحَبَّهُ وَقَالَ لَهُ: “يُعْوِزُكَ شَيْءٌ وَاحِدٌ. اذْهَبْ بِعْ كُلَّ مَا لَكَ وَأَعْطِ الْفُقَرَاءَ فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي السَّمَاءِ وَتَعَالَ اتْبَعْنِي حَامِلاً الصَّلِيبَ” (مر 10: 17- 21).
نُريدُ خُبزاً
السالِكُ في البرية لا يبحث فيها عادةً عن التّرف وعيش حياة مرفهّة، بل يُريد أن يبقى حيّاً مُعتمداً على أبسط مقومات الحياة: الماء والطعام فقط، متناسياً البيوت أو القصور التي يُفكّر فيها أهلُ المدينة. وأمام عوز الطعام والماء في البرية صارت مصرُ أرض الحياةِ التي كانت فيها قدورُ اللحم: “لَيْتَنَا مُتْنَا بِيَدِ الرَّبِّ فِي أرض مِصْرَ إذْ كُنَّا جَالِسِينَ عِنْدَ قُدُورِ اللَّحْمِ نَأكُلُ خُبْزاً لِلشَّبَعِ! فَانَّكُمَا أخْرَجْتُمَانَا إلى هَذَا الْقَفْرِ لِتُمِيتَا كُلَّ هَذَا الْجُمْهُورِ بِالْجُوعِ” (خر 16: 3). صحيح أننا متعوّدون على سماع معلوماتٍ مُبالغٍ فيها تصدر عن المُتذمرين، ولكن كيف يُمكن لعاقلٍ أن يُفكّر في أن الله وموسى أخرجا الشّعب من مصرَ ليقتلاهم؟
فبعد شهرٍ واحدٍ من فرح التحرُّر من مصر، الشّعب مرّة أخرى إذلال المصريين لهم وكيف صرخوا للَّه ليُنقذهم، وكيف خذلَ الربّ جيش فرعون، ووهبَ لهم المياه العذبة في الصحراء، وكان الأجدر بالشّعب أن يتكّل على الله ويتذكّرهُ شاكرينَ نعمةَ التحرّر، وأمّا الباقي فيُعطى ويُزادُ: “لاَ تَهْتَمُّوا قَائِلِينَ: مَاذَا نَأْكُلُ أَوْ مَاذَا نَشْرَبُ أَوْ مَاذَا نَلْبَسُ؟ فَإِنَّ هَذِهِ كُلَّهَا تَطْلُبُهَا الأُمَمُ. لأَنَّ أَبَاكُمُ السَّمَاوِيَّ يَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إلى هَذِهِ كُلِّهَا. لَكِنِ اطْلُبُوا أَوَّلاً مَلَكُوتَ الله وَبِرَّهُ وَهَذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ. فَلاَ تَهْتَمُّوا لِلْغَدِ لأَنَّ الْغَدَ يَهْتَمُّ بِمَا لِنَفْسِهِ. يَكْفِي ليَوْمَ شَرُّهُ” (متّى 6: 31- 34). هنا، نود أن نُشير إلى حقيقة أن المُعجزات لا تُعطي للإنسان هبة الإيمان، فالإيمان المؤسَّس على المعجزات سُرعان ما يبطُل مع زوال المعجزة، وعلينا أن نرى في كلّ ما من حولنا مُعجزة نشكر الله عليها.
سمِعَ الله تذمّرَ الشّعب من أجل الخبز وتعاملَ مع الحالةِ على نحوٍ مُباشرٍ قبل أن يرفع إله موسى تذمّرَ الشّعب، وأكّدَ ذلك موسى وهارون في خطبتها أمام الشّعب، فحوّلَ البريةَ إلى مكان حياةٍ لا موتٍ كما ادّعى الشّعب: “هَا أنَا أمْطِرُ لَكُمْ خُبْزاً مِنَ السَّمَاءِ! فَيَخْرُجُ الشّعب وَيَلْتَقِطُونَ حَاجَةَ الْيَوْمِ بِيَوْمِهَا. لأمْتَحِنَهُمْ أيَسْلُكُونَ فِي نَامُوسِي أمْ لا؟ (خر 16: 4)، والاختبار سيكون: هل يثق الشّعب بكلمة الله ويتلقط كلٌّ حسب حاجاته من دون أن يُفكّر بالغد؟ هل سيخرج الشّعب يومَ السبت لإلتقاط لحم السلوى والمنِّ وينتهِك شريعة السبت والتي شرّعها الله لأولِ مرّة؟ هل سيعرف الشّعب أن يشكر الله في أوقات العوز (الفقر)، كما يشكره في أوقات الشَّبع (الغنى)؟ والأهم: هل يؤمن الشّعب بكلمةِ الله وبتدبيرهِ؟ لذلك، ذكّر موسى الشّعب، بأن تذمّرهم ليس موجهاً إليه، بل إلى الله فهو الذي سمِع أنينهم وحرَّرهم، وهو الذي سيُدبّرهم في البرية: “فِي الْمَسَاءِ تَعْلَمُونَ أنَّ الرَّبَّ أخْرَجَكُمْ مِنْ أرض مِصْرَ. وَفِي الصَّبَاحِ تَرُونَ مَجْدَ الرَّبِّ لاسْتِمَاعِهِ تَذَمُّرَكُمْ عَلَى الرَّبِّ. وَأمَّا نَحْنُ فَمَاذَا حَتَّى تَتَذَمَّرُوا عَلَيْنَا؟” (خر 16: 6- 7)
حصل الشّعب على الطعام من وفرة سخاءِ الله خيراً من طعام عبودية فرعونَ، وطيرُ السلوى سيكون لحماً يأكلونهُ، والمنَّ خبزاً. وفي هذا التدبير الإلهي لا ينسى الرّاوي ذكرَ حفظِ يومِ السبتِ بتكريسهِ للَّه، من دونِ قلقٍ، عبر تقديم صلاةِ الشكرِ فرحين ببركةِ التحرير، بخلافِ خبزِ مصرَ الذي كانوا يقبلونهُ بقلقٍ وخوفٍ وعبوديةٍ قاسيةٍ.
كيف نتلقى خُبزَ الله؟
وضعَ موسى شرطَين لنتلقّى هذا الخُبزَ: القناعة، فلا يُمكن حصدُ أكثر من حاجةِ النهارِ فلا يكون هناك مَن حصدَ الكثير وغيره ينامُ جائعاً، وأن يلتقطوا في اليوم السادس ما يكفي ليومي الجمعة والسبت. وهكذا تتعلّم جماعةُ العهدِ معنى التوزيعِ العادلِ للخيراتِ فلا تنافسَ يُذكَر، لأن الطمعَ والجشعَ مُفسدان لحياةِ الإنسان، هكذا أمّنت هذه المعجزة السِّلم الاجتماعي بين الشّعب فلم يُعادِ أحدهم الآخر بسبب شحّة الطعام، مع أن تجربة الجشع قائمةٌ دوماً: “لَكِنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا لِمُوسَى، بَلْ أبْقَى مِنْهُ أنَاسٌ إلى الصَّبَاحِ فَتَوَلَّدَ فِيهِ دُودٌ وَانْتَنَ. فَسَخَطَ عَلَيْهِمْ مُوسَى” (خر 16: 20)، “وَحَدَثَ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ أنَّ بَعْضَ الشّعب خَرَجُوا لِيَلْتَقِطُوا فَلَمْ يَجِدُوا. فَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: “إلى مَتَى تَابُونَ أنْ تَحْفَظُوا وَصَايَايَ وَشَرَائِعِي؟” (خر 16: 27 -28)، فصارَ هذا الخبزُ علامةَ إيمانِ الشّعب بكلام الله ووعده، وإشارةً لمدى تضامنِ هذا الشّعب وأحدهم مع الآخر، وهكذا يؤمن الشعب بالمُساواةِ والعدالةِ والطاعة لكلمة الله، كما أوصى في معجزة الماء: “إنْ كُنْتَ تَسْمَعُ لِصَوْتِ الرَّبِّ إلَهِكَ وَتَصْنَعُ الْحَقَّ فِي عَيْنَيْهِ وَتَصْغَي إلى وَصَايَاهُ وَتَحْفَظُ جَمِيعَ فَرَائِضِهِ فَمَرَضا مَا مِمَّا وَضَعْتُهُ عَلَى الْمِصْرِيِّينَ لا اضَعُ عَلَيْكَ. فَإنِّي أنَا الرَّبُّ شَافِيكَ” (خر 15: 26)، وأي نظامٍ غيرُ هذا سيكون علامةً لرغبةِ الإنسان في تأمين حياته بنفسه: “وَأَقُولُ لِنَفْسِي: يَا نَفْسُ لَكِ خَيْرَاتٌ كَثِيرَةٌ مَوْضُوعَةٌ لِسِنِينَ كَثِيرَةٍ. اِسْتَرِيحِي وَكُلِي وَاشْرَبِي وَافْرَحِي” (لو 12: 19).
غضِب موسى لأن بعض الشّعب لم يثق بالله، بل حاولَ إعادةَ نُظمِ مصرَ وعاداتها فقام بتخزين المنِّ قلقاً على الغدِ، فمثل هذا الخبزِ، خبزِ القلقِ والغمِ والجشعِ ليس له قيمةَ حياة تُذكَر، وليست له مُستقبل، لأنه خُبزُ التمرّدِ والعصيانِ. ولكن هناكَ مَن هو جاهلٌ ولا يُريد أن يسمعَ، فلم يُصدِق أن الله لن يُمطِر لهم المنَّ يومَ السبتِ، “وَحَدَثَ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ انَّ بَعْضَ الشّعب خَرَجُوا لِيَلْتَقِطُوا فَلَمْ يَجِدُوا. فَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: “إلى مَتَى تَابُونَ أنْ تَحْفَظُوا وَصَايَايَ وَشَرَائِعِي؟” (خر 16: 27-28)
ربطَ الرّاوي قصّةَ المنِّ بوصية السبت ليُبرِزَ الخلافَ ما بين خبزِ العبودية الذي يُعطى في مصرَ وخبز الله المُحرِّر. فخبزُ مصر كان يُقدَم أجراً لعملٍ واستحقاقاً لساعاتِ أشغالٍ شاقّةٍ مع ما يُصاحبُها من مهانةٍ ومذلّةٍ وخوفٍ وقلقٍ من غدٍ قد لا يتوفّر فيه الخبزُ. قد كان خبزاً لقاء إنتاجٍ. أما خُبزُ السّبت، فهو خبزُ السماء، خبزُ النّعمةِ، خبزُ التّحرّرِ من الخوفِ والقلقِ، خبزُ الإيمانِ بالله الذي تضامنَ مع شعبهِ وقدّم لهم خلاصاً، بل حقيقةً للحياة تُعطي الحياة للجميع، وبوفرةٍ. وهكذا صارَت للشعبِ فرصةُ للراحةِ من العملِ: “فَاسْتَرَاحَ الشّعب فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ.” (خر 16: 30)، على مثال خالقه الذي “اسْتَرَاحَ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ مِنْ جَمِيعِ عَمَلِهِ الَّذِي عَمِلَ” (تك 2: 2).
ولأنَّ الإنسان سُرعانَ ما ينسى بركاتهِ، لذا أمرَ الله موسى وهارون ليحتفظا بجرّة فيها منٌّ تُوضعُ أمام الرب لتُحفَظ للأجيالِ كتذكار أمانةُ الله لشعبه الذي جعلَ حياتهم ممكنةً في البريةِ القاحلة: “هَذَا هُوَ الشَّيْءُ الَّذِي أمَرَ بِهِ الرَّبُّ. مِلْءُ الْعُمِرِ مِنْهُ يَكُونُ لِلْحِفْظِ فِي أجْيَالِكُمْ. لِيَرُوا الْخُبْزَ الَّذِي أطْعَمْتُكُمْ فِي الْبَرِّيَّةِ حِينَ أخْرَجْتُكُمْ مِنْ أرض مِصْرَ”. وَقَالَ مُوسَى لِهَارُونَ: خُذْ قِسْطاً وَاحِداً وَاجْعَلْ فِيهِ مِلْءَ الْعُمِرِ مَنّا وَضَعْهُ أمَامَ الرَّبِّ لِلْحِفْظِ فِي أجْيَالِكُمْ” (خر 16: 32- 33)، وقد حفظا هذه الجرّة في تابوت العهد مع لوحي الوصايا وعصا موسى.
محاضرات في العهد القديم (سفر الخروج)
“فَأجْعَلَكَ أُمَّةً عَظِيمَةً وَأُبَارِكَكَ وَأُعَظِّمَ اسمكَ وَتَكُونَ بَرَكَةً” (تك 12: 2)
اللّقاء الثالث عاشر
المقدمة
كانَ على الشّعب أن يُواصِل المسيرة في البرية نحو أرض الميعاد مواجهاً تحديّاتها، وأن يتعلّم من دروس الماضي، وأهم درس فيه هو الإستماع لصوت الله وصُنع الحق في عينه والإصغاء إلى وصاياه وحفظ جميع فرائضه (خر 15: 26)، أي الإيمان به (الله) إلهاً وأباً وراعياً وحارساً أميناً، مُتبّعين إرشاداتهِ التي كشفها لهم، وسائرين بإستقامةٍ أمامهُ وملتزمينَ بشريعتهِ، فقد كان حصناً منيعاً لهم يحميهم من فرعون وجيشهِ، وأباً وهبَ لهم الخبز واللحم من دون إذلالِ العبودية حيث كانوا يحصلون على الخبز أجرة عمل لا نعمة مجّانية، إذ كانوا عبيداً خائفينَ لا أحراراً شاكرين، فأعطاهم السبت، ليكون يوم الرّب، يوم الراحة، فرصة للاحتفالِ بعطاياه، حيث يرفعون الصلاة إلى الله، واهبِ الخُبزِ، شاكرين تدبيره الأبوي، فهو الذي يعرف حاجتهم (متّى 6: 25- 34). لذا، أوصى موسى بأن يُحفظ قسمٌ من المنّ السماوي في جرّة ليُذكِّر الأجيال بما صنعهُ الرّب لآبائهم. وعلى مثاله أوصانا ربّنا يسوع بأن نصنعَ لذكره ما صنعهُ هو لتلاميذه، عندما أخذ الخبز وباركه ثم كسرهُ (لو 22: 19)، ليُعلِّمنا كيف نقبل الحياة عطيّةً من الله الآب ونتقاسم الخبز الذي وهبهُ لنا نعمةً لا نخشى زوالها، بالضدّ من ذهنية الخوف والقلق من حاجتنا إليه في الغد (متّى 6: 31- 34).
وهكذا أصبحت البريةُ، وهي المكانُ الأصعب للعيش الإنساني، مكانَ تدبيرِ الله السخي للنمو في الإيمان: “وأخرجهُ الروحُ عندَئذٍ إلى البريَّةِ، فأقامَ فيها أربعينَ يوماً يُجرّبهُ الشيطانُ. وكانَ هناكَ مع الوحوشِ. وكانت الملائكةُ يخدمُونه” (مر 1: 12- 13)، وبقي الله مُعيناً للشعب وأميناً نحوه على الرّغمِ من تمرّد ذلك الشّعب وعصيانهِ، فقدّم لهم المنَّ حتّى وفاة موسى وتولي ايشوع قيادة الشّعب، إذ أدخلهم أرض الميعاد ليستقروا فيها: “وَإنْقَطَعَ الْمَنُّ فِي الْغَدِ عِنْدَ أَكْلِهِمْ مِنْ غَلَّةِ الأرض، وَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ لِبَنِي إسرائيل مَنٌّ. فَأَكَلُوا مِنْ مَحْصُولِ أرض كَنْعَانَ فِي تِلْكَ السَّنَة” (ايش 5: 12).
أزمة الماء؛ أزمة إيمان
خلال رحلته إلى أرض المعياد، أختبرَ الشعبُ أزمةً ثالثة، فقد تركوا الينابيع الاثني عشرَ خلفهم، ونفد الماء الذي عندهم وعطشوا فخاصموا موسى وتذمّروا عليه قائلين: “أعْطُونَا مَاءً لِنَشْرَبَ” … لِمَاذَا أصْعَدْتَنَا مِنْ مِصْرَ لِتُمِيتَنَا وَاوْلادَنَا وَمَوَاشِيَنَا بِالْعَطَشِ؟” (خر 17: 2-3). مخاصمةٌ أو تذمّرٌ موجهٌ نحو موسى وهارون صادرٌ عن شعبٍ تعوزه الثقة بتدبير الله الذي كان حصناً أمينا لهم إزاء هجمات فرعون وجيشهِ، وأعد لهم اثني عشر ينبوع ماءٍ عذبٍ في البرية، حتّى أن موسى سمّى المكان: “مَسَّةَ وَمَرِيبَةَ” مِنْ أجْلِ مُخَاصَمَةِ بَنِي إسرائيل وَمِنْ أجْلِ تَجْرِبَتِهِمْ لِلرَّبِّ قَائِلِينَ: “أفِي وَسَطِنَا الرَّبُّ أمْ لا؟” (خر 17: 7)، وهو موقفٌ نتوقعهُ من المتذمرين الذين ينثرون التهم جزافاً ومُبالغين من دون التفكير فيما يقولونه.
أرادَ الله، وقبلَ أن يتجاوب مع مطلبِ الشّعب، أن يُصحِّح مواقفهم وموقف وموسى معاً. فالشّعب، وبسبب ذهنية مصر التي ما زالت تتحكّم في حياتهم، ما زالوا يحنونَ إلى الماضي ويُفكّرون بأن شخصاً مثل موسى، هو شبهُ الإله مثلما كان فرعون في مصر ابن الإله سين، لا سيّما وأنه كشفَ عن نفسه قائداً مُقتدراً فواجه فرعونَ وتقدّم مسيرة الشّعب في عبور البحر، لذا، أجابهم موسى قائلا: “لِمَاذَا تُخَاصِمُونَنِي؟” (خر 17: 2)، فأنا لست خالق المياه ولا واهبها، وأضاف: “لِمَاذَا تُجَرِّبُونَ الرَّبَّ؟” (خر 17: 2)، أبّعدَ كلّ ما اختبرتم من آيات ما زلتم تُشككون في قدرة الله؟
ثم شعر موسى بالخطر على حياته بسبب مخاصمةِ الشّعب له، فرفع تضرعهُ للَّه: “مَاذَا أفْعَلُ بِهَذَا الشّعب؟ بَعْدَ قَلِيلٍ يَرْجُمُونَنِي!” (خر 17: 4)، وتدخل الله وصحَّحَ موقف موسى وهدّأَ من مخاوفهِ، إذ لا يجوز أن يُشكِك هو بالشّعب، فمثل هذه المشاعر تُفِقدُه قُدرة القيادة السليمة. فهم مُحقّون في مطلبهم: “أعطونا ماءً لنشرب” حتّى وإن جاء عنيفاً أو مُخجلاً، لذا، وقبل أن يُعطيهم ماءً، أمرَ الله موسى بأن يرفع عصاهُ ويمر أمامَ الشّعب ليتأكد بنفسه أن ليس أحدٌ ينوي قتلهُ، فالله معه وشيوخ الشّعب يُساندونه في مهمّتهِ، وأوصاهُ في الوقت نفسه بأن يستخدم عصاهُ، علامةَ السلطة، التي خوّله الله إياها ليصنع الآيات في مصر، ليضرِبَ الصخرة ويفجّر الحياةَ للشعبِ. العصا التي ضربَ بها النيل فحرم المصريين شربَ الماء منه، صارت عصا السلطة أضحت عصا الحياة لشعبه لا لقمعهم. وهنا، تعلّم موسى معنى أن يكون قائداً، فهو موجود لا ليدينَ شعبهُ، بل ليُخلّصهم حتّى إن تذمروا أو خاصموه، وهذا ممكن فقط إذا حافظَ موسى على موقفهِ كونه رجل الله، فيُبقي أنظارهُ متوجهةً نحوَه: “هَا أنَا أقِفُ أمَامَكَ هُنَاكَ عَلَى الصَّخْرَةِ فِي حُورِيبَ” (خر 17: 6). إلهنا ثبّتَ سُلطةَ موسى من خلالِ تثبيتِ أنظارِ موسى نحوهُ، وإذا كان القائدُ مؤمناً بالله ومتوجهاً نحوه، فالشّعب الحاضرِ أمامهُ من خلالِ أنظارِ الشيوخِ، سيبقى مؤمناً بالله خالقهِ وفاديهِ.
نتوقّع أن يقومَ الشّعب باحتفالٍ مهيبٍ بالغناء والرقص ابتهاجاً بهذه المعجزة في الصحراءِ: ماءٌ من الصخرة. لكنَّ الرّاوي لا يُخبرنا عن هذا الاحتفال، بل يُنبئُنا عن “عوزِ الإيمانِ” الذي أصابَ الشّعب على الرغم من المعجزاتِ العظيمةِ التي رأتها عيونهم في مصرَ، فشكّكوا وارتابوا وآمتحنوا الربَّ في الصحراء، بسبب جهلهِم وعنادِهم، والحنين الذي فيهم إلى مصر، والذي يُذكّرنا بموقف زوجة لوط التي نظرت إلى الوراء فأضحت ملحاً (تك 19: 26). هنا، يأتي تدخّلُ الله الأمينُ لوعدهِ ليشفي هذا العوزِ، ليكون تدخلهُ نعمةً محّبةً. لذا، تقول الحكايات اليهودية القديمة إن الشّعب حمل هذه الصخرةَ معه في الصحراء وكانت ينبوعَ ماءٍ حيٍّ رافقهم أينما ارتحلوا وحلّوا. وتأمّلَ بولس في هذه الحكاية فأشارَ إليها ووجَّه مؤمني كنيسة قورنوثس إلى التأمل في المسيح، الماء الحيّ الذي يُعطي الإنسانية الحياة (1 كور 10: 4)، وربّنا يسوع قالَ للسامرية إنه هو الذي يُعطي ماءَ الحياة، ومَن يشرب منه تتفجّر فيه ينابيع ماء حيٍّ (يو 4: 10- 15).
وإزاء تدخّل الله الأمين لوعده، ما يزال الإنسان مُشككاً ومُجرباً الرّب إلهه: “مِنْ أجْلِ تَجْرِبَتِهِمْ لِلرَّبِّ قَائِلِينَ: “أفِي وَسَطِنَا الرَّبُّ أمْ لا؟” (خر 17: 7)، أن يُجرّبَ الإنسان الربَّ يعني أنه يضعَ الربَّ أمام اختبارٍ ليُظهِرَ قدرته، بمعنى، إجباره ليُظهِر إن كان معنا أم لا؟ فقالَ الشّعب لموسى: إذا كُنا مدعوينَ لنؤمِنَ أن الله موجودٌ فليُظهِر لنا ذلك، وليُعطنا ماءً لنشربَ، وهكذا يتحولُ فعل الإيمان إلى فعلٍ يعتمد رؤية العينين، إيمانٍ تجريبي: “إِنْ لَمْ أُبْصِرْ فِي يَدَيْهِ أَثَرَ الْمَسَامِيرِ وَأَضَعْ إِصْبِعِي فِي أَثَرِ الْمَسَامِيرِ وَأَضَعْ يَدِي فِي جَنْبِهِ لاَ أُومِنْ” (يو 20: 25). ونعرِف كيف سألَ المُجرِبُ ربَّنا يسوع وهو على شرفة الهيكلِ، أن يلقي بنفسهِ لأنّ الله لن يخذلَ مسيحهُ (متى 4: 5-7)، والطلب نفسه قدّمهُ الغنّي الغبيّ لإبراهيم، أن يمضي إلى إخوتهِ واحدٌ من الأمواتِ ليتوبوا (لو 16: 30). إنها طلباتٌ تحتجزُ الله رهينةً بين أيدينا ليُظِهرَ قُدرتهُ عِبرَ أعمالٍ إعجازيةٍ، وبالحقيقة هو موقفٌ نجعل الله فيه خادماً لأمنياتِنا، بل عليه أن يقفَ مُستعدّاً ليُلبّي طلباتنا الطارئة، وهي تقودنا إلى مواقف تُشكِّك بإيماننا. فإذا لم يستجبَ الله لطلباتي فهذا يعني أنني لا أملُكُ الإيمانَ الكافي، وإلاَّ فلماذا لم يتصرّف إلهي مثلما تمنيّتُ؟
علينا أن نؤكد أن إيماننا لا يتأسس على المعُجزات، بل إنّ المعجزات آياتٌ تكشفُ عن صلابة الإيمان لدى الذي يعترِف بقُدرة الله ويقبل مشيئتهُ: “مَنْ يُؤْمِنُ بِي فَالأَعْمَالُ الَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا يَعْمَلُهَا هُوَ أَيْضاً وَيَعْمَلُ أَعْظَمَ مِنْهَا” (يو 14: 12). ويُعلّمنا ربّنا يسوع كيف نُصلي إلى الله الآب، فنقول له صراحةً ما نُريده ونشعرُ به ونترك القرار الأخير له: “يَا أَبَا الآبُ كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ لَكَ فَأَجِزْ عَنِّي هَذِهِ الْكَأْسَ. وَلَكِنْ لِيَكُنْ لاَ مَا أُرِيدُ أَنَا بَلْ مَا تُرِيدُ أَنْتَ” (مر 14: 36).
محاربة العماليق
نأتي الآن إلى الأزمة الرابعة التي واجهت الشّعب، فالمسيرةُ في البرية محفوفة بالمخاطر بسبب هجمات قُطّاع الطرق وغزوات القبائل الساكنة في المُدن والقُرى على الطريق. لذا، جهّز الشّعب نفسه بالسلاحِ إستعداد للقتالِ إن تطلّب الأمرُ (خر 13: 18). ولأن الله يعرف أن الشّعب لم يكن مؤهلاً معنوياً لمواجهة مثل هذا التحدي العسكري في بدء مسيرة الخروج، أشارَ إلى موسى مسبقاً بضرورة تجاوز الفلسطيين (خر 15: 13- 17)، إلا أنهم لم يتمكنّوا من تجاوزِ العماليق، الذين تحدَّروا من أليفاز بن عيسو (تك 36: 12) والذينَ أظهروا العداءَ للشعب حتّى في أيامِ صموئيلَ (1 صمو 16)، وتعددت الغزوات المُتبادَلة بينهما خلالَ التاريخ.
لم يكن بنو إسرائيل قد اعتادوا بعدُ على الغزوات، رغم كونها ظاهرة معروفة بين القبائل آنذاك، ومع أن الله جنّبهم مواجهة جيش فرعون فحاربَ عوضاً عنهم، إلاّ أنه دفعهم هذه المرّة إلى القتال، فمن المهم جداً ألاَّ يُعاملهم الله كأطفالٍ متوكلينَ عليه في كل تحدٍ يواجهونه، بل عليهم أن يتعلموا وينموا وينضجوا ويكبروا في الإيمان. عليهم أن يُبقوا أنظارَهم متوجهةً نحو الله، فهو رجاؤهم، ولكن، عليهم أيضاً أن يتحملوا مسؤوليتهم الشخصية ويواجهوا تحديّات الحياة بأنفسهم، مُستمدّين الحماسة والشجاعة من الله الأمين في وعدهِ، فهو ليس معهم فحسب، بل في وسطهم، في قلوبهم، مؤمنينَ أنهم حتّى لو ساروا في وادي الموت، لن يخافوا شراً لأنه معهم (مز 23: 4).
لذا، كلّفَ موسى يشوعَ، الذي لم يُعرّفنا الرّاوي إلى شخصهِ مُسبقاً، مُفترِضاً أنَّ مُستمعي القصّةِ يعرفونَ مَن هو يشوع، كلّفهُ باختيار خيرة الرجال لمُحاربة العماليق، فيما سيصعدُ هو إلى رأسِ التلّة وعصا الربِّ في يديهِ ليرفعَ الصلاة من أجلهم، فيوجه العصا نحو السماء ولا يتعبَ من ذلك، علامةَ ثقتهِ بالله، وكان أنّه كلّما تعبَ موسى ونزلت العصا خسرَ بنو إسرائيل المعركة وكأن الرّاوي يُريد أن يُخبرنا عن مدى أهمّية الحفاظ على مكانةِ الله وسُلطانهِ في حياة الشّعب، وأن تكون أنظارهم متوجهةً نحوه دوماً، فهو رايتهم: “يَهْوَهْ نِسِّي” (خر 17: 15)، بمعنى الربُّ رايتي، هكذا، حولّـتهم هذه المواجهة من عبيد لفرعون إلى خُدّام الله الذين قرروا بإرادتهم الحُرّة إكرامهُ إلهاً أوحد.
ليست هذه الغزوات أنشطة حربية فحسب، بل فيها يظهر النشاط الإلهي الذي لا يُلغي جهدَ الإنسان، بل يُكمّلهُ، ويظهر ذلك من خلال عصا موسى، إشارةً إلى التدخّل الإلهي، الذي يُظهر للمُحاربين أن هناك قوّةً تسندهم وترفعُ من معنوياتهم، وعليهم مواصلة الجهاد بالصبرِ والمُثابرةِ لتحقيق النصرِ المُرتجى، والأهم أن تبقى أنظارهم متوجهةً نحو الله، فيُظهِر الإيمان الكتابي أن الخلاص مضمون بسبب أمانةِ الله ووفائهِ لوعدهِ من دون أن يتنكّر لجهدِ الإنسان أو يتناسى قسوة المعركة وعنف أساليبها، فمواجهة الشّر تتطلّب اجتهاداً ومثابرة وتعاوناً، حتى موسى، وهو رجل الله، يتعب أحيانا ويحتاج إلى مَن يساعدهُ في مهمّته: “فَلَمَّا صَارَتْ يَدَا مُوسَى ثَقِيلَتَيْنِ أخَذَا حَجَراً وَوَضَعَاهُ تَحْتَهُ فَجَلَسَ عَلَيْهِ. وَدَعَمَ هَارُونُ وَحُورُ يَدَيْهِ الْوَاحِدُ مِنْ هُنَا وَالاخَرُ مِنْ هُنَاكَ. فَكَانَتْ يَدَاهُ ثَابِتَتَيْنِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ” (خر 17: 12)، ويعلّمنا أن تكون أنظارنا متوجهةً نحو الله فمنهُ يأتي العون كما يُصلي المُزمّر (121: 1)، وهذا ما أرادَ موسى أن يُعلّمه للشعب، فتقدّمَهَم ورفعَ يديهِ متضرِّعاً للَّه، مع أنهّ وجّه يشوع لمواجهةِ العماليق، مؤمناً أن النصر آتٍ لا بقدرة الشّعب وقوّته بل بروح الربّ (زك 4: 6)، وعادَ وأكّدَ على الشّعب أهميّة أن تكون أنظارهم متوجهةً إليه إذا ما أرادوا التنعم بخيراتِ الأرض:
“لأَنَّ الأرض التِي أَنْتَ دَاخِلٌ إِليْهَا لِتَمْتَلِكَهَا ليْسَتْ مِثْل أرض مِصْرَ التِي خَرَجْتَ مِنْهَا حَيْثُ كُنْتَ تَزْرَعُ زَرْعَكَ وَتَسْقِيهِ بِرِجْلِكَ كَبُسْتَانِ بُقُولٍ. بَل الأرض الّتي أنتُم عابِرونََ إليها لكي تمتلِكوها هي أرض جِبَالٍ وَبِقَاعٍ. مِنْ مَطَرِ السَّمَاءِ تَشْرَبُ مَاءً. أرض يَعْتَنِي بِهَا الرَّبُّ إِلهُكَ. عَيْنَا الرَّبِّ إِلهِكَ عَليْهَا دَائِماً مِنْ أَوَّلِ السَّنَةِ إِلى آخِرِهَا. “فَإِذَا سَمِعْتُمْ لِوَصَايَايَ التِي أَنَا أُوصِيكُمْ بِهَا اليَوْمَ لِتُحِبُّوا الرَّبَّ إِلهَكُمْ وَتَعْبُدُوهُ مِنْ كُلِّ قُلُوبِكُمْ وَمِنْ كُلِّ أَنْفُسِكُمْ، أُعْطِي مَطَرَ أرضكُمْ فِي حِينِهِ: المُبَكِّرَ وَالمُتَأَخِّرَ. فَتَجْمَعُ حِنْطَتَكَ وَخَمْرَكَ وَزَيْتَكَ. وَأُعْطِي لِبَهَائِمِكَ عُشْباً فِي حَقْلِكَ فَتَأْكُلُ أَنْتَ وَتَشْبَعُ.” (تث 11: 10- 15).
محاضرات في العهد القديم (سفر الخروج)
“فَأجْعَلَكَ أُمَّةً عَظِيمَةً وَأُبَارِكَكَ وَأُعَظِّمَ اسمكَ وَتَكُونَ بَرَكَةً” (تك 12: 2)
اللّقاء الرابع عشر
المقدمة
قرَّرَ بنو العماليق مواجهةَ الربِّ الإله وإعتراضَ بني إسرائيل وهم في طريقهم إلى لقائهِ في البريةِ. أزالَ الرّبُّ حاجزَ العماليقِ، وبقوته، نجحَ بنو إسرائيل في أولِ اختبارٍ عسكريّ خاضوه ضدّهم مُكرَهينَ، على الرغمِ من أن العداوةَ مع بنو العماليقَ ستتواصل، وسيتواجه الفريقان فيما بعد في أكثر من مناسبةٍ.
سنتأملُ أولاً في رواية الإصحاح الثامن عشر من سفر الخروج الذي يستغرِب العديدُ من القُراء وجودَهُ في مثلِ هذا المكان من الكتاب المُقدس! بل إن بعض علماء الكتاب المُقدس يعتقدون أنه ربّما كان من الأنشب أن يكون في مكان آخر ويقترحون وضعهُ بعد الوحي بالوصايا العشر، استناداً إلى قول موسى لحميه يثرون: “إنَّ الشّعب يَأتِي إلَيَّ لِيَسْألَ الله. إذَا كَانَ لَهُمْ دَعْوَى يَأتُونَ إلَيَّ فَأقْضِي بَيْنَ الرَّجُلِ وَصَاحِبِهِ وَأعَرِّفُهُمْ فَرَائِضَ الله وَشَرَائِعَهُ” (خر 18: 15- 16)، وتلك الشرائع التي لم يُوحَ بها بعدُ. ولكنَّ هذا الإصحاح يُقدِّم تعليماً هامّا جداً في مسيرة الشّعب الإيمانية: كيف إستقبلَ العالمُ فعلَ الله المُحرِّر وإنقاذ شعبهِ من عبوديةِ مصر، وكيف يعيش الشّعب هذا الحدثَ الخلاصيّ في تفاصيلِ حياتهم اليومية، فيتوقف الرّاوي في هذا الإصحاح عند مفهومَين أساسيين يُظهران معنى كوننا شعبَ الله: الإيمان والشريعةَ، ففي سفر الخروج (18: 1- 12)، يعترِف يثرون (الوثنيون) بما صنعهُ الله لشعبِ إسرائيل، فيما يتحدّث (خر 18: 13- 27) عن أهميّة القضاء وتثبيت العدالة في حياة هذا الشّعب لئلاّ تعود فوضى مصر لتتحكّم في العلاقات.
فبخلاف العماليقِ، قدّمَ المديانيونَ، من خلال كاهنهم، مشاعرَ الاحترام والإكرام لإلهِ إسرائيل فرحّبوا بالشّعب المُخلَّص من ظلمِ مصرَ، بل أنشدوا لهذا الحدث الخلاصيّ العظيم. وجاءَ اعترافُ يثرون بأن جماعةَ الخروجِ؛ أي بني إسرائيل، هم خليقة الله المُفتداة والذي وهبَ لهم حياة جديدة بعد عبودية مصر المُهلِكة، ومع أن اختيارهم من قبل الله كان نعمةً لا استحقاقاً، إلا أن هذا الاختيار لا يُعطيهم امتيازاتٍ خاصّة بين الشعوب، بل يضع على عاتقهم مسؤولياتٍ عالمية لا سيّما استدعائهم للمحاسبة عندما يُخطئونَ: “اسمعُوا هَذَا الْقَوْلَ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ الرَّبُّ عَلَيْكُمْ يَا بَنِي إسرائيل عَلَى كُلِّ الْقَبِيلَةِ الَّتِي أَصْعَدْتُهَا مِنْ أرض مِصْرَ قَائِلاً: “إِيَّاكُمْ فَقَطْ عَرَفْتُ مِنْ جَمِيعِ قَبَائِلِ الأرض لِذَلِكَ أُعَاقِبُكُمْ عَلَى جَمِيعِ ذُنُوبِكُمْ” (عا 3: 1-2).
لقاء موسى بحميهِ
قدّمَ الرّاوي هذه القصّة بعد قصة مواجهة العماليق العسكرية، لكيلا يعتقد بنو إسرائيل أن كلَّ الأُمميين هم أعداءٌ يجب قتلهم، هناك شخصيات تعرِف ما هو الصلاح وتلتزمُ العملَ به، ويثرون واحد منهم، إذ قدّم لإله إسرائيل الإكرام اللائق، ووجّه موسى لتكون رعايته للشعب أكثر فاعلية.
ذهبَ موسى إلى مديان عندما هربَ من وجه ِفرعونَ (خر 2)، وأظهرَ نُبلاً وبسالةً في حماية بنات يثرون من اعتداء الرُّعاة، فاستقبلهُ يثرون واستبقاه عنده ثم تزوّج من ابنتهِ صفّورةَ وبقي أربعين سنةً خارجَ مصرَ قبل أن يعودَ إليها مُكلَفاً برسالةٍ من الله. ومع أن الرّواي قال لنا إن موسى طلبَ السماح من حميه يثرون لينزل إلى مصر (خر 4: 18)، ورافقته صفوّرة وابنها (خر 4: 24- 26)، لكن يبدو أن موسى أرسل عائلتهُ فيما بعد إلى مديان مُكرِّساً نفسه كلياً للمهمّة التي كلّفه الله بها بعد أن اشتّدت العداوة بينه وبين فرعون وهذا ما يُوضحهُ اسم إبنهِ الثاني: “واسم الآخر أليعازر لأنَّه قالَ: “لانَّهُ قَالَ: “إلَهُ أبِي كَانَ عَوْنِي وَأنْقَذَنِي مِنْ سَيْفِ فِرْعَوْنَ” (18: 4)، وهي المرّة الأولى التي يذكر فيها الرّاوي اسم ابن موسى الثاني. ويُعبّر كلا الاسمين عن حالةِ موسى والشّعب، فهو إنسانٌ (شعبٌ) نزيلٌ وغريبٌ، ولكنّهُ مُباركٌ بعون الله، لذا، فهي ليست اسماء فحسب، بل إعترافاتٌ لاهوتية تُعطينا فكرة عن دعوةِ هذا الشّعب وعن مصيره. هو شعبٌ دعاه الله إلى أن يكونَ غريباً في الأرض، وغريباً عن كلِّ الحضارات التي سيعيشُ بينها، ولن يكونَ باستطاعتهِ الحياة من دونِ عونِ الله، فعليه أن يُبقي أنظاره متوجهةً إليه، فمنه العون، فلن يتبنّى عبادات الشعوب ولن يقبلَ بأي خطوةٍ توافقيةٍ مع تقاليدها والتي مراراً ما تكشفِ عن بُطلان إدعاءاتهم، فهم في العالم، ولكنهم ليسوا من العالم كما علّمنا ربّنا يسوع المسيح (يو 15: 19).
سمع يثرون بما صنعهُ الربّ مع موسى والشّعب، وكيفَ خلَّصَ الله شعبهُ وقادهُ في البرية (الخلق والفداء والقيامة)، وهذه كانت أخباراً سارّةً للعالمِ أجمع، وليس لإسرائيل فحسب، فصعِدَ لمُقابلة موسى ومُباركة الله وشكره على هذا الحدثِ الكبير عند جبلِ سيناء، جبل الله.
كانَ لقاء يثرون بموسى لقاء ودّياً حملَ الكثير من الأخبار المُفرحِة، بل كان اعترافاً إيمانياً بأنَّ الله إنتشلَ هذا الشّعب من طُغيانِ فرعونَ، فأعطى للشعبِ حياة جديدة، وهذا الذي وضّحه موسى من أنَ كلَّ شيءٍ كان بتدبيرٍ من الربِّ الإله بدون أن يُشيرَ إلى جهوده وإسهاماتهِ الخاصة، فصغّر من شخصه ليكبُر الله في عيون يثرون، فتحرّكت مشاعره ومجّد إله إسرائيل:
“فَقَصَّ مُوسَى عَلَى حَمِيهِ كُلَّ مَا صَنَعَ الرَّبُّ بِفِرْعَوْنَ وَالْمِصْرِيِّينَ مِنْ أجْلِ إسرائيل وَكُلَّ الْمَشَقَّةِ الَّتِي أصَابَتْهُمْ فِي الطَّرِيقِ فَخَلَّصَهُمُ الرَّبُّ. فَفَرِحَ يَثْرُونُ بِجَمِيعِ الْخَيْرِ الَّذِي صَنَعَهُ إلَى إسرائيل الرَّبُّ، الَّذِي أنْقَذَهُ مِنْ أيْدِي الْمِصْرِيِّينَ. وَقَالَ يَثْرُونُ: “مُبَارَكٌ الرَّبُّ الَّذِي أنْقَذَكُمْ مِنْ أيْدِي الْمِصْرِيِّينَ وَمِنْ يَدِ فِرْعَوْنَ. الَّذِي أنْقَذَ الشّعب مِنْ تَحْتِ ـيْدِي الْمِصْرِيِّينَ. الآنَ عَلِمْتُ انَّ الرَّبَّ أعْظَمُ مِنْ جَمِيعِ الالِهَةِ لانَّهُ فِي الشَّيْءِ الَّذِي بَغُوا بِهِ كَانَ عَلَيْهِمْ”. فَأخَذَ يَثْرُونُ حَمُو مُوسَى مُحْرَقَةً وَذَبَائِحَ للَّه. وَجَاءَ هَارُونُ وَجَمِيعُ شُيُوخِ إسرائيل لِيَاكُلُوا طَعَاما مَعَ حَمِي مُوسَى أمَامَ الله” (خر 18: 8-12).
“مُباركٌ الرّب (الله)”، عبارة نطق بها يثرون الكاهن الوثنيّ، وما زال يتداولها المتدينون من اليهود عندما يسألهم شخصٌ عن صحتهم، للتأكيد على حقيقة أن الله يستحق الإكرام والشّكرَ في كلّ الأحوال وليس في وقت الرخاء فحسب، فالكتاب المُقدس لا يعرِف إلهاً آخر، ففي فترة السبي لم يقل الشّعب أن آلهة البابليون هم أقوى من إله إبراهيم وإسحق ويعقوب، بل إن الله إستخدمَ البابليون لمُعاقبةِ الشّعب لعصيانهم وتمرّدهم على الله. لكّن ما يُميّز يثرون هو أن مُباركتهُ للَّه جاءت بسبب نعمةُ الله التي فاضت بوفرةِ على الآخرين وليس على نفسه، فكان صعودُ يثرون لإكرامِ الله أمامَ موسى متوافقاً مع ما أنشدهُ موسى سابقاً: “يَسْمَعُ الشُّعُوبُ فَيَرْتَعِدُونَ” (خر 15: 14)، على الرغمِ من أن الرّاوي لم يذكر لنا مَن الذي حملَ هذه الأخبارِ المُفرحةَ ليثرون، مثلما لم يُخبرنا أيّ إلهٍ تعبّدَ له يثرون الكاهن، ولكنّه يخبرنا باعتراف أن إله إسرائيل هو أعظمُ من جميع الآلهةِ، إذ أسقط فرعون وشعبه في السوء الذي فكّروا في إنزاله على شعبِ إسرائيل. هكذا، صارَ خلاص شعب إسرائيل بشارةَ خلاصٍ لجميعِ الأرض، فقدّم يثرون الذبائح للربِّ، وحضرَ هارون وجميع شيوخ بني إسرائيل، ليأكلوا معه أمام الله، فصارَ سلامٌ ما بين الشّعبينِ.
موسى يجلس للقضاء
سمعت الشعوب إذن بالخلاص الذي صارَ لشعبِ إسرائيل، فمجّدوا الله إلهاً قديراً. ولكنَّ هذا الخلاص لا يعني إنتهاء كل الأزماتِ ومشكلات الحياة اليوميةِ، ولا يعني حلَّ جميع معضلات الحياة المُعقّدةِ. لقد تحرروا من قيودِ العبوديةِ، لكنَّ تحررهم جَعَلهم في مواجهةِ صعوباتٍ وتحدياتٍ اجتماعية مُعقدّة، وأهمهّا أن يتأسس نظام حسنٌ للعدالةِ فلا مجالِ لانتهاكاتٍ اجتماعية تُعيدُ ظُلمَ مصرَ.
إلهنا أنعمَ على الإنسان بمواهبَ وبركاتٍ كثيرةٍ، وعلينا أن نعملَ على اكتشافها والتنعُّمِ بها فنبارك الله ونشكره على ذلِكَ. لذا، لا نستغِرب من أن شخصاً خارج جماعةِ المؤمنين مثل يثرون يكتشِف ما يؤولُ لخير الجماعةِ، واقتراحهُ مقبول ومُرحَّبٌ به.
يُطلِعنا الرّاوي في هذه القصةِ على خدمةٍ أخرى قامَ بها موسى بين الشّعب، ألا وهي خدمة القضاء، فيقضي بينهم ويُعلّمهم ما هي إرادة الله ويُعرّفهم فَرَائِضَ الله وَشَرَائِعَهُ (خر 18: 15- 16). ولكن مثل هذه الخدمة سبَّبت إرهاقاً لموسى الذي كان يجلسُ النهارَ كلّه ليسمَعَ ويُرشدَ شعبهُ، وانزعاجاً بين الشّعب الذين كانوا يقفونَ النهارَ كلّه ليحظوا برؤيتهِ (موسى) وسماعِ توجيهاتهِ، فصارت صحتُه وسلامُ الجماعةِ على المحك، لأنّ الشّعب شرع يتذمّر ويتمرّد من طولِ الانتظار، وقد يُخاصِم موسى. ولا بدّ من تنظيمِ ذلكَ، لأن العدالة ليست قضيةَ الله ومسؤوليتهِ فحسب، بل هي مهمة الجماعةِ الإنسانية التي كانت محطَّ اهتمامِ الله المُخلِّص، على أن يكونَ الأمرُ مُنظَّماً.
“لَيْسَ جَيِّداً” (خر 18: 17)، وردت هذه العبارة مرتين في التوارة، في هذه القصّة مرةً، والثانية على لسان الله الذي قال: “لَيْسَ جَيِّدا أنْ يَكُونَ آدَمُ وَحْدَهُ فَأصْنَعَ لَهُ مُعِيناً نَظِيرَهُ” (تك 2: 18)، فنحن لا نسنتطيع أن نعيش وحدنا أو نقودَ الآخرين منفردين، ولا يُمكن احتكار كل المسؤوليات في شخصٍ واحد. فتقدّم يثرون بمُقترحٍ يُخفّف العبءَ عن موسى ودعاه إلى اختيار أُناس شُجعان لا يخافون البشر، بل يخافونَ الله وحده، على مثالِ القابلَتينِ اللّتينِ خلّصتا ذكورَ العبرانيين (خر1: 15- 22)، أُمناءَ يكرهونَ الرشوةَ فلا يقبلونها لئلاّ تعمي عيونهم عن رؤية الحقيقة، لكي يُعاونوهُ في القضاءِ في القضايا البسيطة، فيما يحتفِظ موسى بالخدمة الأهم وهي خدمةُ الصلاة والتوسّط لدى الله من أجلِ الشّعب: “كُنْ أنْتَ لِلشَّعْبِ أمَامَ الله، وَقَدِّمْ أنْتَ الدَّعَاوِيَ إلَى الله. وَعَلِّمْهُمُ الْفَرَائِضَ وَالشَّرَائِعَ، وَعَرِّفْهُمُ الطَّرِيقَ الَّذِي يَسْلُكُونَهُ، وَالْعَمَلَ الَّذِي يَعْمَلُونَهُ” (18: 19- 20)، إضافةً إلى القضاءِ بينَ الناس في الشؤونِ والدعاوي الخطيرة.
هكذا نشأَ نظامٌ قضائيٌّ يتعاملُ مع مُختلفِ شرائح ِالشّعب ويهدف أخيراً إلى معرفةِ فرائِض الله وشرائعهِ، فيُقاد الشّعب من قبل القُضاة لا العسكر، قُضاة يُحققون العدالة للجميع من دون مُحاباة: “لا تَرْتَكِبُوا جَوْراً فِي الْقَضَاءِ. لا تَأخُذُوا بِوَجْهِ مِسْكِينٍ وَلا تَحْتَرِمْ وَجْهَ كَبِيرٍ. بِالْعَدْلِ تَحْكُمُ لِقَرِيبِكَ” (أح 19: 15). فبيّنَ موسى أن أحد أهم مهام القيادةِ هو إحقاقُ الحقِّ والعدالةِ بينَ الناس، ومنبعُ هذا الحقِّ هو الله نفسهُ، فموسى هو المُعرِف بفرائض الله وليس مُشرّعها: “أُعرّفَهُم فرائِضَ الله وشرائعهِ” (خر 18: 16)، لأنَّ الله نفسهُ مهتمٌ بشؤونَ العدالةِ اليوميةِ للشعب ليكوَنَ السلامُ في بيوتِ الناسِ، ويعم الازدهارُ في الجماعةِ كلّها. فالقضية ليست قضيةَ نزاعٍ حولَ المُلكية أو غيرها من المشكلات العلائقية، بل الأهم هو معرفةُ فرائضِ الله وشرائعهِ.
يعرف موسى أنَّ الشّعب مُتطلِّبٌ ويُريد مشورته في كلِّ صغيرة وكبيرة، ولاحظَ يثرون ذلك وعاتبهُ وكأنّه يقول له: يا موسى، أنت تجعلُ من نفسِكَ فرعوناً آخر، مُتسلِّطاً ومتحكماً في تفاصيل حياة الشّعب، اسمحَ لآخرينَ أن يُعينوكَ في الخدمةِ! أنت لا تستطيعُ حمل أثقال هذا الشّعب وحدَكَ! قَبِلَ موسى انتقادَ حميه يثرون وعمِلَ بما اقترحهُ عليه ففوّضَ أُناساً لهذه الخدمة، وكشفَ عن تواضعه في قبول انتقادات الآخرين ومُقترحاتهِم، لأنه جعلَ خيرَ الناس الذين يخدمهم أولويةً في حياته، لذلك قيل عنه: “حَلِيماً جِدّاً أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ الذِينَ عَلى وَجْهِ الأرض” (عدد 12: 3).
عادَ يثرون إلى مديان ولن نسمعَ عنه شيئاً بعد ذلك، ولكن، على الشّعب أن يُعيدوا رواية القصة لجميعِ الناسِ ليعمَّ السلامُ والحياة الآمنةُ بين جميع ِالشعوبِ، لأنَّ الله الخالِقَ يعملُ في خليقتهِ على نحوٍ لا نُدركهُ.
حملهم على أجنحة النسور
خيَّم الشّعب مقابلجبل سيناء، فنادى الله موسى قائلاً: “هَكَذَا تَقُولُ لِبَيْتِ يَعْقُوبَ وَتُخْبِرُ بَنِي إسرائيل: “أنْتُمْ رَأيْتُمْ مَا صَنَعْتُ بِالْمِصْرِيِّينَ. وَأنَا حَمَلْتُكُمْ عَلَى أجْنِحَةِ النُّسُورِ وَجِئْتُ بِكُمْ الَيَّ” (خر 19: 3- 4)، فذَكَّرَهم الله بحمايته لهم في مصر وفي البرية، فكان لهم مثل النسر الذي يحمل صغيره على جناحيه، إذ لا يُمكن لطائر آخر أن يطير أعلى منه أو يحاول خطفَ صغيرهِ، في إشارة إلى محبّة الله لهم والتي شهدَ الشّعب فاعليتها: “أنتم رأيتُم”، فكان الرّب هو الأب والحامي والراعي والمُغذي للشعب.
جاء الله بهم ليكونوا له: “وَجِئْتُ بِكُمْ إلَيَّ”، فأسَّس علاقةً مشروطةً معهم: “فَالآنَ إنْ سَمِعْتُمْ لِصَوْتِي، وَحَفِظْتُمْ عَهْدِي تَكُونُونَ لِي خَاصَّةً مِنْ بَيْنِ جَمِيعِ الشُّعُوبِ. فَانَّ لِي كُلَّ الأرض” (خر 19: 5). إلهنا يتوقّع الأمانة له من قبل الشعب في هذه العلاقة، وينتظر من الإنسان أن يُظهِر في تفاصيل حياته اليومية أنه مُحبٌ ورحوم وعادلٌ شهادةً على أنه مُرتبطٌ في علاقة مع الله: “قَدْ أَخْبَرَكَ أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا هُوَ صَالِحٌ وَمَاذَا يَطْلُبُهُ مِنْكَ الرَّبُّ، إِلاَّ أَنْ تَصْنَعَ الْحَقَّ وَتُحِبَّ الرَّحْمَةَ وَتَسْلُكَ مُتَوَاضِعاً مَعَ إِلَهِكَ” (ميخا 6: 8).
خروج الشّعب من مصرَ لم يكن من أجل التحرّر من العبودية فحسب، بل من أجل التعبّد للَّه، كما أشرنا في لقاءٍ سابقٍ، بل ليكونوا له شعباً خاصاً: “وَأنْتُمْ تَكُونُونَ لِي مَمْلَكَةَ كَهَنَةٍ وَأمَّةً مُقَدَّسَةً. هَذِهِ هِيَ الْكَلِمَاتُ الَّتِي تُكَلِّمُ بِهَا بَنِي إسرائيل” (خر 19: 6). هذا الاختيار لا يعني أن لهم أفضليةً على باقي الشعوب، بل جاء اختيارهم ليجعلوا الله معروفاً ومحبوباً من قبل العالم أجمع، وسيشهدون لحضورِ الله من خلال تطبيق فرائضه وشرائعه، فخدمة الكاهن، على سبيل المثال، هي أن يخدم الله ويساعد المؤمنين على التقرّب منه، وهذه خدمة هذا الشّعب في العالم، فهناك اختيارٌ وتكريسٌ (إفراز) عن الآخرين كونهم يحملون رسالة في العالم، ودعوة للتقرّب من الآخرين في الوقت نفسه فهذه الرسالة هي من أجل العالم، لذا، عليهم أولاً الطاعة لمَن اختارهم وحرَّرهم لخدمتهِ، وقبلَ أن يُعلِن الله علاقة العهد هذه مع الشّعب: سألهم: هل تقبلون بهذا العهد أم لا؟ إلهنا مُحِبٌّ غيورٌ يُخاطب شعبهُ بحنان وحبٍ ليس لهما مثيلٌ، ولأنّه يُحب فهو قادرٌ على أن يسأل كلَّ شيءٍ من محبوبته، ومحبوبته تُحّبه فتُطيع كلامه، والجواب عن هذا السؤال سيُغيّر حياة طرفي العهد إلى الأبد.
“فَجَاءَ مُوسَى وَدَعَا شُيُوخَ الشّعب وَوَضَعَ قُدَّامَهُمْ كُلَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الَّتِي أوْصَاهُ بِهَا الرَّبُّ. فَأجَابَ جَمِيعُ الشّعب مَعاً: “كُلُّ مَا تَكَلَّمَ بِهِ الرَّبُّ نَفْعَلُ”. فَرَدَّ مُوسَى كَلامَ الشّعب إلَى الرَّبِّ”. (خر 19: 7- 8)، ثم عادَ موسى وأعلمَ الله بجواب الشّعب، فطلبَ الله من موسى أن يتهيأ الشّعب للقائه، هو القُدوس، عند الجبل، والذي سيعني بالضرورة التحّرك نحوه صعوداً من أجل لقاء الله. على الشّعب أن يغسلوا ثيابهم ويظهروا بمظهرٍ يليقُ بهذه اللقاء، فعندما يرتدي الإنسان ثياباً خاصةً لأجلِ لقاء خاص، سيؤثّر ذلك على موقفه وأفكاره وحتّى على كلامهِ، ولكلِّ لقاءٍ مكانته الخاصّة: “إذْهَبْ الَى الشّعب وَقَدِّسْهُمُ الْيَوْمَ وَغَداً وَلْيَغْسِلُوا ثِيَابَهُمْ. وَيَكُونُوا مُسْتَعِدِّينَ لِلْيَوْمِ الثَّالِثِ.” (خر 19: 10- 11)، وعليهم ألاَّ يقتربوا من الجبل، حيث حضرَ الله، مثلما أشارَ إليه عند العُليقة المُشتعلة (خر 3: 5)، وفعل الشّعب كل ما أمرَ به الله، فغسلوا ثيابهم، وعند اليوم الثالث صارَت “رُعُودٌ وَبُرُوقٌ وَسَحَابٌ ثَقِيلٌ عَلَى الْجَبَلِ وَصَوْتُ بُوقٍ شَدِيدٌ جِدّا. فَارْتَعَدَ كُلُّ الشّعب الَّذِي فِي الْمَحَلَّةِ.” (خر 19: 16)
سألَ الله طاعةَ الشّعب، وقَبِلَ الشّعب طاعة الله طوعاً، وحضرَ الله للقاء الشّعب، فارتعدَ الشّعب من حضوره. هم شعبهُ، “مَمْلَكَةَ كَهَنَةٍ وَأمَّةً مُقَدَّسَةً” (خر 19: 6)، بمعنى، أنهم قادرونَ جميعاً على الإصغاء والتعلّم والتأمل والتفسير والتعليم، وهو واجب الكاهن، وسيُخصِّص الله لاحقاً سبط لاوي ليخدُمَ خيمةَ العهد والمذبح كهنةً، لكنّ الله ينتظر من الشّعب أن يكونوا مُستعدين لتعلّم فرائضه وتعليمها: “يُخْبِرُ يَعْقُوبَ بِكَلِمَتِهِ وَإسرائيل بِفَرَائِضِهِ وَأَحْكَامِهِ. لَمْ يَصْنَعْ هَكَذَا بِإِحْدَى الأُمَمِ وَأَحْكَامُهُ لَمْ يَعْرِفُوهَا” (مز 147: 19 -20).
محاضرات في العهد القديم (سفر الخروج)
“فَأجْعَلَكَ أُمَّةً عَظِيمَةً وَأُبَارِكَكَ وَأُعَظِّمَ اسمكَ وَتَكُونَ بَرَكَةً” (تك 12: 2)
اللّقاء الخامس عشر
المُقدمة
“وَأنْتُمْ تَكُونُونَ لِي مَمْلَكَةَ كَهَنَةٍ وَامَّةً مُقَدَّسَةً. هَذِهِ هِيَ الْكَلِمَاتُ الَّتِي تُكَلِّمُ بِهَا بَنِي إسرائيل” (خر 19: 6). اختار الله الشّعب إذن من أجل رسالةٍ في العالم، هم كهنتهُ، وعليهم أن يعملوا إرادتهُ ويُعرِّفوا العالم بفرائضه، والتي ستجعل الأرض مسكَناً له، وهو ما سيطلبهُ لاحقاً منهم من خلال بناء خيمة العهد. لذا، كان من المهم أن يُعلِنَ لهم وصاياهُ التي سيحملونها إلى العالم، وقرَّر إعلانها هو بنفسه في البرية قبل أن يدخلوا أرض الميعاد ليُعلِّمهم أن تطبيق هذه الوصايا ليس مُرتبطة بمكان جغرافي، كما أنها ليست متعلّقة بسبط أو عشيرة ما، بل هي للشعب كلّه، بل للإنسانيّة جمعاء، فالأرض كلّها له وهو خالقها.
أكدّ الكاتب المُلهَم أن الكلمات العشر هي كلمات الله نفسه وليست كلمات موسى: “ثُمَّ تَكَلَّمَ الله بِجَمِيعِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ” (خر 20: 1)، “ثُمَّ أعْطَى مُوسَى عِنْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الْكَلامِ مَعَهُ فِي جَبَلِ سِينَاءَ لَوْحَيِ الشَّهَادَةِ: لَوْحَيْ حَجَرٍ مَكْتُوبَيْنِ بِإصْبِعِ الله” (خر 31: 18)، بخلاف الفرائض الأخرى التي كتبها موسى لاحقاً: “وَكَتَبَ مُوسَى هَذِهِ التَّوْرَاةَ وَسَلمَهَا لِلكَهَنَةِ بَنِي لاوِي حَامِلِي تَابُوتِ عَهْدِ الرَّبِّ وَلِجَمِيعِ شُيُوخِ إسرائيل.” (تث 31: 9). كلماته (الله) الموجهة إليهم جميعاً فليست حصراً على نُخبةٍ مُختارة منهم، والجميع سيكون مسؤولاً أمام الله عن تطبيقها، كما أنها ليست نسبيّة في نظرتها للإخلاق، بل هي من الله الواحد، الذي يرى كل البشر جنساً واحداً مخلوقاً على صورته ومثاله (تك 1: 26- 27)، ويضعهم أمامَ ميثاقٍ أخلاقيَّ واحد، والخبرة الإنسانية تقول إنّ الشعوب التي بدأت تتنكّر لوصية “احفظ يوم الرب” على سبيل المثال، تشهد زيادة في حالات التوتر والعنف بسبب الضغط النفسي وعبودية العمل التي يُعاني منها العاِمل.
عشرُ كلمات
لدينا إذن عشر وصايا بحسب عدد أصابع اليدين، ليتمكن المؤمن من حفظها بسهولةٍ فلا ينساها لأنها كلماتٌ للحياة كلّها، فديمومة العلاقة مع الله تعتمد على أمانةِ الإنسان في المحافظة على بنود العهد الذي له مع الله، لذا، اِعتاد شعب إسرائيل أن يُصلّي يومياً هذه الصلاة: “اسمعْ يَا إِسْرَائِيلُ: الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ. فَتُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلبِكَ وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ وَمِنْ كُلِّ قُوَّتِكَ” (تث 6: 4-5)، كما اعتاد الشّعب أن يُعلن “الوصايا العشر” ويُصلّيها في كل احتفالٍ دينيّ كونها الأساس الذي يعتمد عليه في علاقاته مع الله ومع القريب، فالشّعب لا يعُدّ حُبَّ الله وحبَّ القريب اختياراً بين اختيارات أخلاقيّة، بل وصيةً لا يستطيع الإفلات منها إن أرادَ أن يبقَى شعباً مُختاراً، فهي شريعة شعبٍ ارتبطَ بعهدٍ مع الله، فما يُميّزها أيضاً عن غيرها من المُشترعات في بقيّة الديانات، هو أنها جعلت الترابط وثيقاً ما بين سلامة العلاقة مع الله وسلامة علاقة الإنسان مع أخيه الإنسان، فعمل الخير للقريب وإكرامهُ تعبير عن أصالة العلاقة مع الله، فيكون مظهراً أخلاقياً للتعبد صالحاً مُلزِماً: “بِمَا أَنَّكُمْ فَعَلْتُمُوهُ بِأَحَدِ إِخْوَتِي هَؤُلاَءِ الأَصَاغِرِ فَبِي فَعَلْتُم” (متّى 25: 40)، وهو ما دعا يعقوب الرسول أن يكتب في رسالته: “أَنْتَ تُؤْمِنُ أَنَّ الله وَاحِدٌ. حَسَناً تَفْعَلُ. وَالشَّيَاطِينُ يُؤْمِنُونَ وَيَقْشَعِرُّونَ! وَلَكِنْ هَلْ تُرِيدُ أَنْ تَعْلَمَ أَيُّهَا الإِنْسَانُ الْبَاطِلُ أَنَّ الإِيمَانَ بِدُونِ أَعْمَالٍ مَيِّتٌ؟” (يع 2: 19- 20).
لم تكن هذه الوصايا يوماً “قانوناً” بل “كلمة نعمة”، و”بُشرى للحياة” من عند الله، وهذا ما فعلهُ ربّنا يسوع المسيح الذي كان يُصليها يومياً مرتين، ووجّه الشاب الذي سألهُ: “أَيُّهَا الْمُعَلِّمُ الصَّالِحُ أَيَّ صَلاَحٍ أَعْمَلُ لِتَكُونَ لِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ؟” إلى أن يحفظَ الوصايا أولاً، إن أرادَ الحياة الأبدية (متى 19: 16- 19)، كونُه، أي ربّنا يسوع المسيح، تحقيقُ كاملٌ لهذه الوصايا: “لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ، بَلْ لِأُكَمِّلَ” (متى 5: 17)، والتي كانت تعبيراً عن الهوية الداخلية للشعب، عن كيانهِ العميق كشعبٍ اختاره الله، فصارت تعليماً، تعليما يُقدّمه الأب لابنه: يا بنيّ، نحن شعبٌ اختاره الله وميّزه عن باقي شعوبِ الأرض، فخلَّصَه من العبودية ليعبده حُرّاً، فليس لنا إلهٌ آخر. نحن نُكرِم اسمه، ونُكرِم سُلطته، ونحن شعبٌ لا يقتل ولا يزني ولا يسرق ولا يشهدُ بالزور، هي هويّتنا ورسالتنا في العالم الذي يتعبّد لآلهةٍ باطلةٍ، وعلينا أن نُبشّرهم جميعاً أن يذوقوا وينظروا ما أطيب الربّ (مز 34: 8)، وعليكَ أن تعرِف يا بُنيّ أنكَ مهما حققتَ من منجزاتٍ، فإشكر الله لأنه رفعكَ من عبودية مصرَ، ووهبَك الحياة بعدما قرَّر فرعون موتّك (خر 1: 22)، لذا، لتكن هذه الوصايا دليلاً لك في الحياة، فلا تنساق إلى كلّ ما ترغبهُ أو تتمنّاه، فليس كلٌّ ما تراهُ حسن المنظر سينفعُك في حياتِك.
وأخيراً هي عشرُ وصايا (كلمات) مُلزِمة تحمل معها واجبات وليس حقوقاً، وتمنعُ الإنسان من التجاوز على حقوق الله وحقوق الآخرين، وتاريخنا الإنساني حافلٌ بسير حياة شخصيات ادّعت نيّاتٍ صالحة فأهلكت حياة كثيرين. ولأن هذه الوصايا ملزمة لكل فردٍ في الجماعة، لذا، جاءت بصيغة المُخاطَب المُفرد، فالمجتمع الصالح يُبنى بوجود أفراد يعرفون ما هو الصلاح ويعملونهُ، وخاصّةً تجنّب إيذاء القريب والابتعاد عن السلوكيات الخاطئة، وهي نقطة الشروع في العلاقة الصالحة مع الله ومع القريب.
الكلمة الأولى
“أنَا الرَّبُّ الَهُكَ الَّذِي اخْرَجَكَ مِنْ أرض مِصْرَ مِنْ بَيْتِ الْعُبُودِيَّةِ. لا يَكُنْ لَكَ الِهَةٌ أخرى أمَامِي” (خر 20: 2- 3)، والتعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية للوصيّة الأولى يُقدِم الوصيّة الأولى على النحو الآتي: “أنَا الرَّبُّ الَهُكَ الَّذِي اخْرَجَكَ مِنْ أرض مِصْرَ مِنْ بَيْتِ الْعُبُودِيَّةِ. لا يَكُنْ لَكَ الِهَةٌ أخرى أمَامِي. لا تَصْنَعْ لَكَ تِمْثَالا مَنْحُوتا وَلا صُورَةً مَا مِمَّا فِي السَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ وَمَا فِي الأرض مِنْ تَحْتُ وَمَا فِي الْمَاءِ مِنْ تَحْتِ الأرض. لا تَسْجُدْ لَهُنَّ وَلا تَعْبُدْهُنَّ” (خر 20: 2-5)، فيدمج الوصيّة الأولى والثانية في وصيّة واحدة.
المُتابع لأخبار الساعة سيقول: لماذا لم يطلب الله في وصيّته الأولى أن يكفّ الإنسان عن القتل ويضع: “لا تقتل” أولى الوصايا، فالعنف والقتل أكثر المظاهر الاجتماعية انتشاراً بين الناس؟ لما لم تكن كلمة “لا تسرق” ه يالأولى؟ والفساد المالي والإداري يقتل مُستقبل شعوب وأفراد. وواقع الحال أننا نحن المسيحيين، لم نعرف غيرَ الله إلهاً ولم نتبعّد قط لبعل أو للأوثانِ لكي يُطالبنا الله اليوم بخصّه بالعبادة بالقول: “أنا هو الرب إلهكَ لا يكن لك آلهةٌ تجاهي. قانون إيماننا واضحٌ ومن خلاله نُعلن: نُؤمنُ بإلهٍ واحدٍ، فلماذا هذه البداية؟
يكشِف الله لنا في الوصية الأولى عن هويتهِ، مَن هو إلهنا الذي نسمعُ له ونصغي إلى وصاياهُ ونخضع له. إنه إلهٌ فاعلٌ في حياتنا وليس مجّرد فكرة أو نظرية فلسفية، أو العلّة الأولى المُحرِكة التي لا تتحرّك. هو إلهٌ يعتني بخليقتهِ، سمِعَ أنينَ الشّعب في مصرَ ونظرَ إلى مذلّتهم وقرر أن يُنقذهم من أيدي مُعذبيهم (خر 3: 7- 9). إلهنا لا يُقدّم نفسه خالقاً أو معلِّماً يطلب الطاعة، بل إلهاً مُحِّرراً يطلبُ صداقة الإنسان المؤسَّسة على شروط واضحة لطرفي العلاقة. هو المُخلِّص والمُحرِّر والفادي الذي وضعَ كلَّ ألوهيتهِ في خدمةِ الإنسان المُضطَهَد، إلهٌ حيٌّ يتفاعلُ مع شعبهِ ويتحرّك معهم حيثما هم، حتّى صار جسداً وحلّ بيننا (يو 1: 14).
إلهنا ليس مُهتماً بالكشفِ عن قُدرتهِ، فلم يقل: “أنا خالقُ السماء والأرض”، بل إلهُ يُريد علاقةً مع الإنسان يراها ستؤول إلى خير الجماعةِ كلّها، لذا، فوصيّته الأولى هي: أنا أنقذتُك من عبودية مصرَ ووهبتُك الحياة بكرامةٍ من جديد، وهذا ما أطلبهُ منك. فهل يعني هذا أن الله أنقذ شعبه ليُدخله في عبودية أخرى؟ كلا، فالعلاقة تختلف هنا. فحين أعيش الحياة شاكراً الآخر لأنّه تفضّل عليّ بالحياة وسمحَ لي بأن أعيش، فأنا تابعٌ له وليس لي اختيارٌ آخر، ولكن عندما أشعر أن الحياة تستحقُ أن تُعاش بسبب وجود الآخر الذي يُحبّني وهو مُستعدٌّ لأن يُضحّي بنفسه من أجل أن أعيش بكرامةٍ وتكون لي الحياة الأبدية (يو 3: 14- 16)، فأنا أخضعُ له حُبّاً لا خنوعاً، وهو يَحمي حُريّتي ولن يسلبها منّي، لأنّه يُحبني، لذا، ترانا نتجنّبُ الشّر الذي يراه هو شرّاً، لا خوفاً من العقاب الإلهي، بل لأنه شرٌ، وهو أمرٌ لا يليق بهويتنا: “نحن أبناء العهد”. من هنا نقول: إنَّ مُخالفتنا للوصايا ليست خطأ أو ضعفا أو نقصاً، بل خطيئة، لأنها تعني رفض قبول إرادة الله.
“أنَا الرَّبُّ الَهُكَ الَّذِي اخْرَجَكَ مِنْ أرض مِصْرَ مِنْ بَيْتِ الْعُبُودِيَّةِ. لا يَكُنْ لَكَ إلِهَةٌ أخرى أمَامِي”، إلهنا هو الذي يكشفُ لنا عن اسمهِ لنا، فهو ليس كباقي الالهة التي أخذت اسمها من الإنسان الذي خاف منها مرتعباً. فالإنسان لم يعرف الله، ولم يكن بمقدورهِ التعرّف عليه عن قربٍ، بل الله هو الذي بادَرَ وقرّبَ نفسه، وهو الذي أعلنَ اسمهُ للإنسان. “أنا هو الربُّ إلهك”: يهوه، أكون حيثما أكون، وخلقَ هذا الإله علاقةً خاصّةً مع شعبهِ الذي عليه أن يُبشِّرَ به العالم أجمع. هذا الإختيار ليس سبباً للإفتخار، بل على العكس، فمنذ البدء أعلنَ الله أن نعمتهُ هي التي اختارتنا وليست أمانتنا أو أفضليتنا: “ليْسَ مِنْ كَوْنِكُمْ أَكْثَرَ مِنْ سَائِرِ الشُّعُوبِ، التَصَقَ الرَّبُّ بِكُمْ وَاخْتَارَكُمْ لأَنَّكُمْ أَقَلُّ مِنْ سَائِرِ الشُّعُوبِ. بَل مِنْ مَحَبَّةِ الرَّبِّ إِيَّاكُمْ وَحِفْظِهِ القَسَمَ الذِي أَقْسَمَ لآِبَائِكُمْ أَخْرَجَكُمُ الرَّبُّ بِيَدٍ شَدِيدَةٍ وَفَدَاكُمْ مِنْ بَيْتِ العُبُودِيَّةِ مِنْ يَدِ فِرْعَوْنَ مَلِكِ مِصْرَ” (تث 7: 7-8). فهذا الاختيار يحمل معه مَهمةً ورسالة ومسؤولياتٍ: “أَنَا الرَّبَّ قَدْ دَعَوْتُكَ بِالْبِرِّ فَأُمْسِكُ بِيَدِكَ وَأَحْفَظُكَ وَأَجْعَلُكَ عَهْداً لِلشَّعْبِ وَنُوراً لِلأُمَمِ. لِتَفْتَحَ عُيُونَ الْعُمْيِ لِتُخْرِجَ مِنَ الْحَبْسِ الْمَأْسُورِينَ مِنْ بَيْتِ السِّجْنِ الْجَالِسِينَ فِي الظُّلْمَةِ” (إش 42: 6-7).
فلستَ حُراً يا إنسان لتعملَ ما يحلو لكَ، فإنسانيّتُك لها حدودها لأنّك لا تقوى على الطيران مثل الطيور، ولست قادراً على البقاء في أعماق البحار مثل الاسماكَ: أنتَ إنسان ولست قادراً على تغيير طبيعتِك الإنسانية، حاول إن شئتَ، تراك تسقط أو تغرق.
أنت إنسانٌ وأنا اخترتُكَ وأنقذتُك من عبودية مصر، تذكّر هذا دوماً لئلاَ تتكابر وتتشامخ (تتفرعَن)، فتظِلمَ وتستعبِد الآخرين وتُعيد عبودية مصر في حياتِك، فاعرف أن هناك حدّاً لممارسة سلطتكِ على الآخرين فلا تتجبَّر عليهم فهم إخوتُك وأنتم أمامي سواسية، ولا تنظر متحسّراً إلى أرض العبودية مثلما فعلت سابقاً (خر 16: 3)، آملاً تحقيق إنجازاتها، فتلك صارت على حسابِ كرامتك وكرامةِ إخوتك. لذا، يُذكّرُ الله شعبهُ من الكلمة الأولى بأن عبودية مصر يُمكن لها أن تتكرّر عندما يتشامخ الإنسان ويستكبِر مُتسلّطاً، فتذكَّر يا إنسان مقولة إبراهيم: “إنِّي قَدْ شَرَعْتُ اكَلِّمُ الْمَوْلَى وَأنَا تُرَابٌ وَرَمَادٌ” (تك 18: 27)، فالبداية (الأصل)، وضيعُ، بل من العدم.
ولكن هل هناك آلهة أخرى في حياتنا حتّى نسمع الله يقول: “أنَا الرَّبُّ الَهُكَ الَّذِي اخْرَجَكَ مِنْ أرض مِصْرَ مِنْ بَيْتِ الْعُبُودِيَّةِ. لا يَكُنْ لَكَ الِهَةٌ أخرى أمَامِي”؟
يؤكد المبدأ الأخلاقي أنّ كل ما خلقهُ الله هو حسنٌ جداً (تك 1: 31)، ولكن عندما يتحوّل من كونه وسيلةً في الحياة من أجل تقديسنا، ليكون غاية الحياة سيكون صنماً وإلهاً يُعبد. من ذلك، على سبيل المثال، طلبُ الشهرة، أو السعي وراء منصب، أو ثروة، أو موهبة، أو فكرة، أو لذة، أو سلطة، أو التبعية لأيّ عِرقٍ أو حتّى شخصيّة. هذه كلّها وسائل صالحة وُجِدَت لتقديس الإنسان ولإكرام الله وخدمة البشرية، ولكنها إن تحّولت من وسيلةٍ إلى غاية ستُصبح آلهةً تُعبَد وتُكرَم وتُفقِدُ الإنسان النظرة الصحيحة إلى ذاته وإلى هويّته، فيغدو مُكبَّلاً بالقلق خوفاً من خسارتها، فيحتاج إلى سماعِ صوت الله المُحرِّر: “أنَا الرَّبُّ الَهُكَ الَّذِي أخْرَجَكَ مِنْ أرض مِصْرَ مِنْ بَيْتِ الْعُبُودِيَّةِ. لا يَكُنْ لَكَ آلِهَةٌ أخرى أمَامِي”، فلا يجوز تحريم ما حلَّله الله (أع 10: 15)، مثلما لا يجوز تقديس ما خلقهُ الله: “للربِ إلهك تسجدُ، وإياه وحدهُ تعبُد” (لو 4: 8)، خلقك حُراً أمامهُ وهو يمنحك لك كلَّ يوم فرصةَ البدء من جديد، فالمستقبل كلّه بين يديك، وأنت مَن يُقرِّر وجهتكَ.
من هنا ترفض هذه الوصية الإصغاء إلى الخرافة وممارسة السِّحر واستحضارَ الأمواتِ، فضلاً عن استشارة مُستطلعي الأبراج والمنجّمينَ وقارئي الكف، شارحي الفأل بالخير أو الشؤم أو مستطلعي الحظّ، واللجوء إلى الوسطاء أو محاولة إرضاء القوى الخفية وحمل التعاويذ. هذه الممارسات صرنا نلحظ انتشارها بين المؤمنين مُتوهمينَ أن لها قوّةً شافية من القلق الذي يختبرونهُ. لذا، فنحن بحاجةٍ إلى أن نُصلّي إلى إلهنا ليهبنا القوّة اللازمة لمحاربة هذه الآلهةِ التي تقف في طريق مُشاهدتنا وجهَ الله، وأن نؤمن به ونُعظِّمهُ إلهاً أوحد في حياتنا على مثال أمنّا مريم: “تُعظّمُ نفسي الربَّ، وتبتهجُ روحي بالله مخلصي” (لو 1: 46- 49).
مُختصر التعليم الأخلاقي للوصيّة الأولى: من أجل أن تعيش حياة صالحة، أنت مدعو يا إنسان إلى الإيمان بأنَّ هناك إلهاً واحداً، وله وحدهُ يحقُّ التعبّد، وهو ينظر إلى الإنسان، وإلى البشرية جمعاء نظرة مُعتنَيةً ملؤها الرحمةُ، ويراهم جميعاً أبناءه، إخوةً وأخوات سواسيةً أمامه، ويطلُب منهم جميعاً إتمام وصاياهُ من دون استثناء يُميّز هذا عن ذاك، سيستدعي الله الإنسان، كلُّ إنسان، إلى المُحاسبةِ عن نوعيّة الحياة التي عاشها، لأنّ الله يراه إنساناً مسؤولاً عن حياته وسلوكياتهِ، فلا حُرية من دون عدالة، ولا يُمكن تحقيق العدالة من دون أن يلتزم كلُّ إنسان بمسؤوليته الشخصية عن ديمومة الحياة على الأرض، بما فيها تعزيز العلاقات البشرية وإنماؤها، كما أنّه مسؤول عن كلّ قرار شخصيّ يلتزم به، فهو ليس مُطالباً بأن يُقدِم التعبّد إلاّ للَّه الذي يُريده إنساناً حُرّاً أمامه.
محاضرات في العهد القديم (سفر الخروج)
“فَأجْعَلَكَ أُمَّةً عَظِيمَةً وَأُبَارِكَكَ وَأُعَظِّمَ اسمكَ وَتَكُونَ بَرَكَةً” (تك 12: 2)
اللّقاء السادس عشر
المُقدمة
أول ما يطلبهُ الله إذن، هو الإيمان به إلهاً أوحد، بعدما كشف عن هويته إلهاً فاعلاً في حياة الإنسان من خلال قصة التحرّر من مصر العبودية. قصةٌ عبّر الله من خلالها عن أمانتهِ لوعدهِ، فجعل من الممكن أن يطلبَ من شعبهِ الالتزام بالشرائع التي يراها أساسية في الحفاظ على ديمومةِ العلاقة التي تربطهُ بشعبه. هذا الالتزام هو جزءٌ من المسؤولية التي أرادَ أن يُشرِكَ فيها الإنسان منذ البدء في عمل الخلق، حينما أبدعَ الحياة والنظام من الفوضى (تك 1- 2). في فكر الله هناك دائماً مجالٌ ليتحرّك الإنسان، وليُبادرِ في هذه العلاقة فلا يبقى نكرةً، بل هو إنسانٌ مسؤولٌ عن قراراته ويلتزم واجباتهِ.
إلهنا، إلهٌ واحدٌ وهو حاضرٌ دوماً ومُنتبهٌ لواقع شعبه، وقد اختبرَ الشعب نعمةَ حضوره معهم إذ اخرجهم من مصرَ، وبسبب هذه الخبرة صارَ بإمكانهِ أن يطلُبَ منهم الخضوع له ليكونوا خاصته ومملكة خُدّام (كهنة)، وليس ممكلة حُكّام، ممكلة خادِمة وليس مملكة حاكمة. فالله يطلب ولاءً مُطلقاً بعد أن كشفَ عن محبته خلال مسيرة التحرر، وفضح زيفَ آلهتها، ثم طلبَ ثقةَ شعبهِ به، فأعطى قبلَ أن يأخذ، ويدعونا إلى أن تكون كلَّ سلوكياتنا الأخلاقية جواباً على محبتهِ السخيّة لنا، فه يليست واجباتٍ، بل مسؤوليات، واعترافاً بفضلهِ وعلامة تعبّدٍ له وحدهُ، فهو لن يقبل بوجودِ أشياء أو طواهرَ أو كائناتٍ تسرق إنتباه الإنسان وتحوّله عنه، فهو إلهٌ غيورٌ.
الكلمة الثانية
“لا تَصْنَعْ لَكَ تِمْثَالا مَنْحُوتا وَلا صُورَةً مَا مِمَّا فِي السَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ وَمَا فِي الأرض مِنْ تَحْتُ وَمَا فِي الْمَاءِ مِنْ تَحْتِ الأرض. لا تَسْجُدْ لَهُنَّ وَلا تَعْبُدْهُنَّ لانِّي أنَا الرَّبَّ الَهَكَ الَهٌ غَيُورٌ أفْتَقِدُ ذُنُوبَ الآبَاءِ فِي الابْنَاءِ فِي الْجِيلِ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ مِنْ مُبْغِضِيَّ. وَأصْنَعُ إحْسَاناً إلَى أُلُوفٍ مِنْ مُحِبِّيَّ وَحَافِظِي وَصَايَايَ” (خر 20: 4- 6).
هذه الكلمة مُرتبطة بالكلمة الأولى على نحو وثيقٍ، فالله كشفَ عن نفسه إلهاً مُحرِّراً، وهو يطلب من الشعب أن يبقى حُرّاً، فلا ينحني متعبدِّاً لأي مخلوقٍ أو منحوت أو تمثالٍ، كما أن الله حُرٌ وغير خاضعٍ لتصوراتِ الإنسان، نظراً لأن الناس تميل إلى حبسِ الآخر في الصورة التي يُشكّلونها عنه، فيختلِط المظهر بالجوهَر، لذا، عادَ الكاتبُ المُلهَم ليقول في سفرِ تثنية الاشتراع: “فَاحْتَفِظُوا جِدّاً لأَنْفُسِكُمْ. فَإِنَّكُمْ لمْ تَرُوا صُورَةً مَا يَوْمَ كَلمَكُمُ الرَّبُّ فِي حُورِيبَ مِنْ وَسَطِ النَّار” (تث 4: 15).
في ذلك الزمان كانت فيه الشّعوب التي جاورت شعبَ إسرائيل تصنع منحوتاتٍ لآلهتها رغبةً منهم في أن يجعلوا هذه الآلهة قريبةً منهم، بل ملموسةً، فيكون التواصل معها أسهل نظراً لانشغال القوة الإلهية الأعظم عن حاجاتهم، لأنّ هذه الآلهة كما كانون يعتقدون، هي خادمة للقوّة الإلهية الأعظم. كما أن بعض الشعوب، وخاصةً المصريين، كانوا يعتقدونَ أن الآلهة دسّت بعضاً من أُلوهيّتها في المادّة: الحجارة، والخشب وسواها، فصنعوا منها آلهةً وعبدوها في محاولة للتقرّب إليها والسيطرة عليها، ولكنهم توقفوا عندها فتحوّلت من منحوتاتٍ إلى معبوداتٍ، بل إن الشعب خافَ من آلهةِ الشعوب الأخرى وتنكّر للَّه: “وَكَانَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَخْطَأُوا إِلَى الرَّبِّ إِلَهِهِمِ الَّذِي أَصْعَدَهُمْ مِنْ أرض مِصْرَ مِنْ تَحْتِ يَدِ فِرْعَوْنَ مَلِكِ مِصْرَ وَاتَّقُوا آلِهَةً أخرى، وَسَلَكُوا حَسَبَ فَرَائِضِ الأُمَمِ الَّذِينَ طَرَدَهُمُ الرَّبُّ مِنْ أَمَامِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمُلُوكِ إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ أَقَامُوهُمْ” (2 ملوك 17: 7- 8)، ويسترسل الكاتب المُلهَم في سفر الملوك الثاني في تفاصيل توثّن الشعب ويقول: “وَتَرَكُوا جَمِيعَ وَصَايَا الرَّبِّ إِلَهِهِمْ وَعَمِلُوا لأَنْفُسِهِمْ مَسْبُوكَاتٍ عِجْلَيْنِ، وَعَمِلُوا سَوَارِيَ وَسَجَدُوا لِجَمِيعِ جُنْدِ السَّمَاءِ، وَعَبَدُوا الْبَعْلَ. وَعَبَّرُوا بَنِيهِمْ وَبَنَاتِهِمْ فِي النَّارِ، وَعَرَفُوا عِرَافَةً وَتَفَاءَلُوا، وَبَاعُوا أَنْفُسَهُمْ لِعَمَلِ الشَّرِّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ لإِغَاظَتِهِ” (2 ملوك 17: 16- 17).
وأراد البعض من خلال التعبّد لهذه المنحوتات التواصل مع عالمِ الأُلوهةِ، ليفتحوا المجالَ لهذه القوى الخارقة أن تنفذَ إلى عالمهم، في محاولة ترويض هذه الآلهةِ وتفادي غضبها، فجمّدوا الألوهةَ فيما صنعتهُ أيديهم وحاولوا أرضاءها بطقوس وذبائح حسب متطلّباتِ الحياة وحاجتها. لذا، جاءت هذه الكلمة لتُحرّر الإنسان من هذه الأوهام، وتُعتِقه من التعبّد للشمس والقمر والكواكب، ومن خرافاتِ سطوتها، فالله هو الله والإنسان هو الإنسان، والخليقة على الرغم من أنها من صنعِ يد الله، إلا انها ليست مُقدسةً، والآيات التسع في مصرَ كشفت للشّعبِ أنَّ الطبيعة كلّها تخضع للَّه، ليس هذا فحسب، بل هي كلّها لتمجيده: “سَبِّحِيهِ يَا أَيَّتُهَا الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ. سَبِّحِيهِ يَا جَمِيعَ كَوَاكِبِ النُّورِ. سَبِّحِيهِ يَا سَمَاءَ السَّمَاوَاتِ وَيَا أَيَّتُهَا الْمِيَاهُ الَّتِي فَوْقَ السَّمَاوَاتِ” (مز 148: 3-4).
إلهنا لا يُمكن إذن أن يُجمَّد في صنمٍ، أو تمثالٍ، أو تعريفٍ، أو شرحٍ، أو تفسير. إلهنا حُرٌ من كل هذه، ولن يكونَ بمقدورِ الإنسان أن يصنعَ صورةً للَّه، الله هو الذي يصنع صورتهُ في الإنسان، وهو نفسهُ الذي قرَّر أن يكون إلى جانبِ الإنسان: “والكلمة صارَ جسداً وحلَّ بيننا” (يو 1: 14). فإلهنا بيّنَ أنه حاضرٌ بيننا. إلهنا لا يُمتَلَك، بل يملُك، وهو حاضرٌ أن يُعطي ذاتهُ لنا كما يطيبُ له، وحيثما يطيبُ له، ولكلِّ مَن يرغبُ لقاءه، لأنه محبّة، ويُريد علاقة مع الإنسان، الإنسان الحي الذي هو صورة الله، ويعكسُ مجد الله بوجهٍ مكشوفٍ كما في مرآة، فيتحوّل إلى تلك الصورة ويزدادُ مجداً على مجدٍ على حدّ تعبير بولس الرسول (2 كور 3: 18). الإنسان الذي عليه أن يُبقي العالم حسناً مثلما خلقه الله، الإنسان صاحب الكلمة المنورة، صاحب التسبيح، والتهليل والشكر والحمد، لذا، وجّه بولس أبناء كنيسة غلاطية قائلاً: “اثْبُتُوا إِذاً فِي الْحُرِّيَّةِ الَّتِي قَدْ حَرَّرَنَا الْمَسِيحُ بِهَا، وَلاَ تَرْتَبِكُوا أَيْضاً بِنِيرِ عُبُودِيَّة” (غلا 5: 1)، حُرية المسيح: “اَلَّذِي هُوَ صُورَةُ الله غَيْرِ الْمَنْظُورِ” (كو 1: 15)
إلهنا إلهٌ واحدٌ، وهو ليس نتاجَ أفكارِ الإنسان، فالله ليس فكرة أو فلسفة. هو المُختلفُ دوماً عن أفكارِ الإنسان، فلا يُمكن تصغيرُ الله ليكون متوافقاً مع كلماتنا الإنسانية البسيطة، ولا يُمكن أن يُحدَّد بتعريفٍ أو بصورة، وهو يُريد أن يُكرَم حُراً من تعبيرنا ومفاهيمنا وتعاريفنا الإيمانية، لأنّه سرّ، ومهما حاول الإنسان أن يُحيط الله بكلماته، فسيبقى هو مُختلفاً عن هذه التعابير، وكونه سرّاً يدعونا إلى الحوار معهُ، وتجسُّدُ كلمته كان من أجل أن يكون بيننا وبينه حوارٌ، لذا، بدأ وصاياهُ بعبارة: “ثُمَّ تَكَلَّمَ الله بِجَمِيعِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ” (خر 20: 1)، ولكن، يبقى مُختلفاً عن مفاهيمنا وحُراً من تعاريفنا اللاهوتية أو الفلسفية، فلا يُمكن حبسهُ في فكرٍ إنساني محدود، ويذهَب ضحيّة هذه المفاهيم أُناسٌ أبرياء لأنهم لا يؤمنون بمثلِ ما نؤمن لذا سيقول الله لاحقاً: “لا تَنْطِقْ بِاسم الرَّبِّ الَهِكَ بَاطِلاً لأنَّ الرَّبَّ لا يُبْرِئُ مَنْ نَطَقَ بِاسمهِ بَاطِلا” (خر 20: 7)، ولأنَّ الله خلقَ الإنسان على صورته ومثاله، لذا، يطلبُ في الوقت نفسه أن لا نحبِسَ الإنسان، القريب، في صورٍ نمطيّة غير قابلة للتغيير، لكونهُ كائناً قادراً على النمو في القامة والحكمة أمام الله والناس.
إلهنا إلهٌ يعتني بالإنسان على نحو شخصي: “أنَا الرَّبُّ إلَهُكَ الَّذِي أخْرَجَكَ مِنْ أرض مِصْرَ مِنْ بَيْتِ الْعُبُودِيَّةِ” (خر 20: 2)، لذلك فهو ليس بحاجةٍ إلى آلهةٍ أخرى إلى جانبه تُساعده في الإستجابة لحاجات الإنسان كما كان الأقدمون يؤمنون فيصنعون لهم منحوتاتٍ تُمثلُ الآلهة المُساعدة للقوة الإلهية الواحدة. هو إلهُ إبراهيم وإسحاق ويعقوب، الحاضِر إلى جانب شعبهِ دوماً، ونحن نؤمنُ به أباً يعتني بنا ويعرِف ما نحنُ بحاجةٍ إليه (متّى 6: 25 – 33).
فللكلمة الثانية إذن علاقةٌ وثيقة بالكلمة الأولى لأنها تؤكّد على وحدانيةِ الله وتفرّده، من خلال تجنّبِ ثلاثِ محظوراتٍ: “لا تصنع… لا تسجد… لا تخدمُ… والسبب واضح: “أنتم يا شعبَ الله في علاقةٍ مع الرّبِّ الإلهِ الأوحد، وهو إلهٌ غيورٌ الذي لا يقبل أن يُشاركهُ في العبادةِ إلهٌ آخر، التي تظهر في أمانتهِ لشعبهِ؛ شريكهِ في العهدِ، فالصنم والمنحوت سيكونانِ من أعداءَ الله، من البُدلاء الذين يسرقونَ حُبَّ الشريك، فيلهو الإنسان بعيداً عن حبيبهِ، لذا، حرّمت هذه الوصية رسم صور أو صنع منحوتاتٍ.
أصنام اليوم
لقد مرّت الكنيسة بفتراتٍ صعبةٍ وبانقساماتٍ مؤلمةٍ بسبب تمسّكها ببعض التعابير اللاهوتية، فراح الناس يُهاجم بعضهم بعضاً، بل يدعو إلى إفناء المُختلِف عنهم في الفكر. وظنَّ المُتمسكونَ بالتعابير أنهم قادرونَ على اختبار حضور الله من خلال حفظ هذه التعابير، متناسين أن حضور الله يُعاش من خلال قصة محبتهِ التي نقبلها نعمةً ونُقدمها شُكراً. فالتعابير اللاهوتية صارت صنماً يُعبَد عوض أن تكون فسحةً للتأمل الشاكر لنعَمِ الله في حياتنا.
كما حصل حينما اختلفت المؤمنون حول الإكرام المُقدَّم للإيقونات والصور وللفن المُقدَّس إذ اعتبرَ بعضهم أنها إساءة صريحة للوصيّة: “لا تَصْنَعْ لَكَ تِمْثَالاً مَنْحُوتاً وَلا صُورَةً”. دافعت الكنيسة عن الفن المُقدَّس بكونه إجلالاً واحتراماً وليس تعبّداً، وهي (الصور والإيقونات) تقودنا إلى الله الذي تجسّد بيسوع المسيح، لتُدخلنا في شِركة معه، ما دامت غايتها تمجيد اسم الله، فالفن بكلّ أشكاله هو في خدمة تأدية العبادة للَّه الواحد وغير المنظور، لذا، كان الموسيقار باخ يبدأ ويُنهي سيمفونياتهِ الشهير بعبارة: “التمجيد للَّه”. وتفتخر البشرية بروعة الفن المُقدس الذي كان يُساعد الإنسان في التوجّه نحو الله مُمجِداً، كونهُ ينبعُ من ممارسة الزهد والصوم والصلاة ويقودنا إلى الصلاة على حدّ تعبير البابا بندكتُس السادس عشر، هو ثمرةُ إيمان الفنان الذي يستسلم إلى حضور الله في حياتهِ مؤمناً أن الروح هو الذي يقودنا، فيعبُر من كونه فناً ليكون فناً مُقدساً.
الصنم أو المنحوت هو انعكاس لرؤية الإنسان وما يرغبُ فيه سعياً لتملّكه والسيطرة عليه، في حين يعدّ الفن المُقدس محاولة للتقرّب من جمال الله وعظمتهِ، عارفين أننا عاجزون عن استيعابه. فالتجربة لا تكمن في رسم الصورة أو نحت التمثال، بل في التعبّد لأيّ منهما، في تقديم ذبائح أو تضحيات من أجلها وتناسي الخالق، وهنا تكمُن ضرورة التميز، إذ سيطلبُ الله من موسى أن يصنع كاروبين من ذهبٍ فوق غطاء العهد (خر 25: 18)، وحيّة من نحاسٍ لينظر إليها المُصابونَ بلدغة الحيّة ليُشفوا (عدد 21: 8)، فخطورة هذه الخطوات تكمنُ في تأليهِ الصور والمنحوتات، وبالتالي، فهي في هذه الحالة، إفسادٌ للحس الديني الموجود في الإنسان، مثلما تُعلّمنا أمّنا الكنيسة في تعليمها المسيحي (فقرة 2114).
قصّة العجل المصنوع من الذهب، والتي رواها الكاتبُ المُلهَم في سفر الخروج (32: 1- 8)، تُعرفّنا على تجربة الصنميّة التي تأخذ أشكالاً متنوعة في حياتنا. فعندما أبطأ موسى على الجبل، وشعرَ الشّعب بالضياع لعدم وجود قيادة توجههم في البرية المُوحِشة، طلبوا من هارون: “قُمِ اصْنَعْ لَنَا آلِهَةً تَسِيرُ أمَامَنَا، لأنَّ هَذَا مُوسَى الرَّجُلَ الَّذِي أصْعَدَنَا مِنْ أرض مِصْرَ، لا نَعْلَمُ مَاذَا أصَابَهُ” (خر 32: 1). هم شعروا بالضياع وأرادوا أن يصنعوا لأنفسهم (الضائعة) صنماً يستهدون به، والحال أن أعمى حين يقود أعمى، فكلاهما يسقطان في حفرة (لو 6: 39).
لم يتمكّن هارون من مقاومة إرادة الشعب فصنع لهم عجلاً من ذهب، والذي يُمثل في الحضارات القديمة الخصوبة والوفرة في كل شيء (الثروة والشهرة والنجاح)، والقوة، ومصنوع من الذهب (مالٌ وفيرٌ)، وهي نفسها آلهةُ عصرنا اليوم، في إشارة صريحة إلى عدم قُدرةِ الإنسان للثقةِ بالله الذي يُطالب بأن تكون له الأولوية في الحياة، فحيثُ يَكُونُ كَنْزُ الإنسان هُنَاكَ يَكُونُ قَلْبه (متّى 6: 21)، فنحن نعي أن كلَّ علاقة بحاجةٍ إلى وقتٍ نقضيهِ ونُخصصهُ لأجلها، وذلك من خلال جملةِ أنشطة اجتماعية لكي يدومَ الاتصال والتواصل فيها. اليوم، ومن خلال نظرة سريعة إلى حياتنا اليومية وبرامجها، وعبر حسابات رياضية بسيطة يُمكننا أن نُحدّد قائمةً بالقضايا التي تشغل أوقات النهار، لنجد أن التلفاز قد إحتلَّ المرتبة الأولى يُنافسه الهاتف النقّال، فالتسوّق ثم شؤون الأولاد وأخيراً: الله.
ولأن الله ينتظر من الوالدين أن يتحمّلوا مسؤولية تربية وتنشئة أبنائهم ليسيروا في طريق الاستقامة، يُنبِّه قائلاً: “لأنِّي أنَا الرَّبَّ إلَهَكَ إلَهٌ غَيُورٌ أفْتَقِدُ ذُنُوبَ الآبَاءِ فِي الأبْنَاءِ فِي الْجِيلِ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ مِنْ مُبْغِضِيَّ. وَأصْنَعُ إحْسَاناً إلَى أُلُوفٍ مِنْ مُحِبِّيَّ وَحَافِظِي وَصَايَايَ” (خر 20: 5- 6). هو إلهُ يُحبّ لذا، فهو إلهٌ غيورٌ، ويُشدّد على ضرورة أن يعي الوالدان أن لكلِّ اختيار حياتي يقومون به، له بركاته على العائلة بأجمعها، أو عواقبهُ السلبية، فعليهم أن يحذروا.
التعليم الأخلاقي للوصيّة الثانية: إلهنا يدعونا إلى توطيد العلاقة معه: “أنا هو الربُّ إلهَك”، وهو يُريدنا أحراراً أمامهُ، وأن يكون حُرّاً هو أيضاً من مفاهيمنا وتصوراتنا عنه، ومنفتحينَ لهبّةِ روحهِ، فنقبلَ عطيّة الحياة ونقف أمامهُ أحراراً من كلّ تعبدٍ لما هو أرضيٌّ، من أجل أن يكون التعبّد له وحده، فلا إله آخر إلى جانبه، مما يعني وحدانية العقيدة والأخلاقية معاً، فليست هناك وصايا أخرى من آلهةٍ أخرى.
وعندما يسألنا أن يكون هو حُراً من تصورّاتنا وأن لا نحبِسه في صورة أو مفهومٍ، هكذا، يطلب منّا أيضاً أن يكون الإنسان المخلوق على صورته ومثاله، حُرّاً من تصوراتنا ومفاهيمنا، وأن لا نحبِسهُ في صورة نمطيّة واحدة، وأن لا يحبُس في الإنسان نفسهُ تصوّر نمطي واحد.
قد يواجه الإنسان أن يتحوّل ما هو جميل المنظر والمَسمَع إلى غاية تُعبَد، فيُمكن أن تصبح المفاهيم عن الله أهم من التعبّد له، وأن تتحوّل الأعمال الفنيّة (رسوم ومنحوتات) إلى معبودات عوضَ أن تُقرِّبَنا إلى الله لتكون هناك إمكانية لقاءٌ شخصي.
على الوالِدين التيقّن من أن اختياراتهم الحياتية لها تبعات وعواقب على حياة العائلة، فعليهم تنشئة أبنائهم على محبّة الله وتعرّف ما يُريده الله، و”قَدْ أَخْبَرَكَ أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا هُوَ صَالِحٌ وَمَاذَا يَطْلُبُهُ مِنْكَ الرَّبُّ إِلاَّ أَنْ تَصْنَعَ الْحَقَّ وَتُحِبَّ الرَّحْمَةَ وَتَسْلُكَ مُتَوَاضِعاً مَعَ إِلَهِكَ” (ميخا 6: 8).
محاضرات في العهد القديم (سفر الخروج)
“فَأجْعَلَكَ أُمَّةً عَظِيمَةً وَأُبَارِكَكَ وَأُعَظِّمَ اسمكَ وَتَكُونَ بَرَكَةً” (تك 12: 2)
اللّقاء السابع عشر
المُقدمة
أراد الله الاقتراب من الإنسان على نحوٍ لا يُؤذي الإنسان ولا يُضيّق مجال حُرّيته، فدعاه إلى التقرّب من جبلهِ على أن لا يصعدهُ (خر 19: 12) ليبقى الله إلهاً والإنسان إنساناً، وهكذا يحفظُ الله للإنسان كرامتهُ وحريته، فلا يُلغي حضور الله المهيب حياة الإنسان، بل يُثبّتها ويُرسِّخها مُطالباً إياه بالإصغاء إليه وإتمام وصاياهُ. وطلبُ الإصغاء من شخصٍ إنمّا يعني الاعتراف بحريّته كونهُ إنساناً قادراً على أن يقول نعم أو لا لما سيتمُ الحديث عنه، فجاءت العبارة الأولى في تقديم وصاياه: “ثُمَّ تَكَلَّمَ الله بِجَمِيعِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ” (خر 20: 1)، فلم يستخدم الراوي المُلهَم فعل أوصى أو أمرَ، بل فعلُ “تكلم” يُشيرُ إلى وجود شخص آخر في الطرف الآخر يُصغي إلى المُتكلم وله إمكانية قبول أو رفض ما يتضمهُ الكلام.
اعترافُ الله بعلاقتهِ مع الإنسان يعني أنه لا يرغب في أن يكون هو وحدهُ كلَّ شيءٍ في العالمِ، هناك مجالٌ للإنسان ولمُبادراتهِ الصالحةِ فيواصل، مسؤولاً، عمل الله الخلاق على الأرض، الذي شرعَ فيه. واستراح منه في اليوم السابع، وعلى الإنسان أن لا يسمح للفوضى أن تعمَّ الأرض، بل يبني على الأسس التي ثبّتها الله في عملِ الخلقةِ من أجل حياة صالحةٍ للجميع.
لذا، تأتي الوصايا العشر، لتُعبّر عن مشيئة الله الخالِق على الأرض، كما هي في السماء، ليجعل من الأرض مسكناً له، فيُشركَ شعبَهُ في تحقيقِ مشيئتهِ هذه على الأرض، فهذا يعني أن على شعبهِ (كنيستهِ)، إشراكَ الآخرين أيضاً في تحقيق هذه المشيئة، فيكون الإصغاء لكلمة الله فرصةً لحياة إنسانية مُشرِّفة للجميع، لأن كلمة الله ليست بمعزلٍ عن واقع الحياة اليومية، إذ على شعبِ الله أن يحفظَ الوصايا، ويكون حفظها شهادةً حيّة للشعوب الاخرى التي ستعترِف بالحكمةِ التي فيها، ويُكرَم اسم الله بين الأُمم: “فَاحْفَظُوا وَاعْمَلُوا. لأَنَّ ذَلِكَ حِكْمَتُكُمْ وَفِطْنَتُكُمْ أَمَامَ أَعْيُنِ الشُّعُوبِ الذِينَ يَسْمَعُونَ كُل هَذِهِ الفَرَائِضِ فَيَقُولُونَ: هَذَا الشَّعْبُ العَظِيمُ إِنَّمَا هُوَ شَعْبٌ حَكِيمٌ وَفَطِنٌ” (تث 4: 6).
الوصيّة الثالثة: “لا تَنْطِقْ بِاسم الرَّبِّ الَهِكَ بَاطِلا
حذّرتِ الوصيتان الأولى والثانية الإنسانَ من الهرب بعيداً عن الله إلى آلهةٍ أخرى، أو نحو تصوراتٍ وأوهامٍ مزيفةٍ عن الله، فهو بذلك سيخطأُ إلى الله ويفعل الشّر تجاه القريب ويُدمّر فرص الحياة الصالحة على الأرض، ويُكمِلُ الله الحديث قائلاً: “لا تَنْطِقْ بِاسم الرَّبِّ إلَهِكَ بَاطِلاً لأنَّ الرَّبَّ لا يُبْرِئُ مَنْ نَطَقَ بِاسمهِ بَاطِلا” (خر 20: 7)، لتُحذِّر الإنسان من الاستخدام الكاذب والمُسيءِ لإسم الله.
ومن أجل أن نعي أهمية هذه الكلمة علينا أن نذكّر أن الأقدمين كانوا يرون أن هناك علاقة جوهرية ما بين الاسم وحامله. فالاسم يُعبّر عن دعوة الإنسان وتوجّهاتهِ الحياتية، عن جوهرهِ وماهيّتهِ. الاسم هو الشخص بذاته، لذا، تكون معرفة الاسم في بداية اللّقاء والحوار المُتبادَل ضروريةٌ: “قَالَ لَهَا يَسُوعُ: “يَا مَرْيَمُ!” فَالْتَفَتَتْ تِلْكَ وَقَالَتْ لَهُ: “رَبُّونِي” الَّذِي تَفْسِيرُهُ يَا مُعَلِّمُ” (يو 20: 16)، كما أنَّ لفظُ الإنسان اسم (فلان) يعني أيضاً أنني أمسّهُ بقوّةٍ فاعلة، فذِكر اسم الله يعني استحضاره بسرّه كلّه، وهو ما لا يستوعبهُ إنسان قط، مثلما ذكرنا في لقائنا السابق، وعندما يتم إعلان اسم الله في يوم التكفير ينال الشعب المغفرة لأنهم تواصلوا مع حياة الله، وهي الرحمة.
كما وجرت العادة أن يُسمّي صاحب السلطة اسم عبدَه أو مَن سيعمل تحت سلطانه: “لا يكن اسمك أبرام، بل إبراهيم … من الآن تُدعى كيفا …. من هنا نفهم رفضَ الله التعريف باسمه للذين يسألونه، كما نقرأ قي مشهد حُلم يعقوب: “فَسَألَهُ: “مَا اسمكَ؟” فَقَالَ: “يَعْقُوبُ”. فَقَالَ: “لا يُدْعَى اسمكَ فِي مَا بَعْدُ يَعْقُوبَ، بَلْ إسْرَائِيلَ لأنَّكَ جَاهَدْتَ مَعَ الله وَالنَّاسِ وَقَدِرْتَ” وَسَالَهُ يَعْقُوبُ: “أخْبِرْنِي بِاسمكَ”. فَقَالَ: “لِمَاذَا تَسْالُ عَنِ اسمي؟” وَبَارَكَهُ هُنَاكَ” (تك 32: 27- 29).
إلهنا ليس مثل آلهة البشر المُزيفة التي تأخذ أسماءها من الإنسان الذي صنعها. إلهنا قريبٌ منّا بحيث نستطيع أن ندعوه: “يهوه”: “سأكونَ حيثما أكون ومتى ما أكون”، واحتراماً لهذا الاسم المَهيب، قرّر شعبُ الله ألاّ يلفُظَ اسم الله الذي كشفهُ لهم، فدعوه بـ “أدوناي” والتي تُترجَم عادة بـ “الربّ”، وكان هذا الحظر سارياً حتّى أيام ربّنا يسوع فنجد أن متّى الإنجيلي، ولكونه يكتُب إنجيليهُ إلى جماعة يهودية يُفضل كتابة صيغة “ملكوت السماوات” عوض “ملكوت الله” مثلما يذكرها مرقس ولوقا.
الإيمان بالله إلهاً قديراً وصالحاً يعني إذن عدم السماح للإنسان أيضاً بأن يستخدم اسم الله ليصنعَ ما يحلو له، فينطق باسم الله ليُحقق رغباته الشخصية فيُسيءُ بذلك إلى الله: “لاَ يُمْكِنُ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَ الْعَثَرَاتُ وَلَكِنْ وَيْلٌ لِلَّذِي تَأْتِي بِوَاسِطَتِهِ! خَيْرٌ لَهُ لَوْ طُوِّقَ عُنُقُهُ بِحَجَرِ رَحىً وَطُرِحَ فِي الْبَحْرِ مِنْ أَنْ يُعْثِرَ أَحَدَ هَؤُلاَءِ الصِّغَارِ” (لو 17: 1). الإيمان بالله إلهاً قديراً يعني مهابةَ اسمهِ أيضاً، والعمل على تقديس اسمهِ، وتقديسُ اسمهِ دعوة للعمل وفقَ مشيئتهِ فيتمجّد اسم الله على كلِّ لسان.
ولكن مَن هو هذا الإله المُستعدُّ لأن يغفر للإنسان إذا تعبّد لمنحوتٍ وتابَ عن ذلك، أو إن اقترفَ خطيئةً؛ قتلاً أو زنى أو كذباً أو سرقةً، وندِمَ عليها فيغفرَ له أيضاً، ولكنّه، أي الله، لن يغفرَ لمَن ينطُق (يحملُ) اسمهُ باطلاً؟
من أجل أن نفهَم حقيقة ما يطلبهُ الله من الشعب الذين آمنوا به إلهاً أوحد، علينا أن نُترِجم حرفياً كلمة “تِيسا” العبرية والتي تعني: لا تحمل، وليس لا تنطق أو لا تحلِف. فالله يطلب من الشعب ألَّا يحملوا اسمه باطلاً، فلا يُلفظوا اسم الله زوراً، أو لتكذيبٍ، أو لمكرٍ، أو للهوٍ، أو تجديفٍ، أو لشكاياتٍ باطلة، أو نفاق، أو ثرثرة. كما ولا يحقُّ لهم أن يلفظوا اسم الله ليلعنوا إنساناً يُخالفهم سلوكيات الحياة، لأن الله ليس حجراً يرجمون به هذا أو ذاك من الناس، وربما تأتي بعدئذٍ عمليات سلبٍ ونهبٍ واستعبادٍ وتعذيب وحرقٍ وإفناء للآخر المُختلف عنهم رأياً ومُعتقداً باسم الله. لا يحقّ لنا أن نجعل اسم الله في خدمةِ نظرياتنا وتوجهاتنا الإيمانية والأيديولوجية، وهي تجربة قديمة بِقدَم الإنسان، حذّرَ منها حزقيال النبيّ من خلال توجيه كلام قاسٍ للأنبياء الكذابين الذين يدّعون رؤى باطلة (حز 13: 3- 12)، فيجعلون الله يقول ويفعل ما يريدون هم أن يقولوه ويفعلوه، وهذه الادعاءات تقود إلى حروماتٍ وحروبٍ وثوراتٍ باسم الله، إذ يُصرُّ بعضهم على أنه يعرف ما يدور في فكر الله، مُخالفين وصيّة الله الثانية، ويحكمون على العالم من حولهم انطلاقاً من هذه النظرة، ويعملون الشرّ باسم الله، وعالمنا يتأثر سلباً ببطلان شهادة حياة المؤمنين، أكثر من تأثره بما يطرحه الملحدون من نظريات حول نكران وجود الله. لذا، يقول الله في هذه الوصيّة: إذا شوّه المؤمن اسمي فلن أُطهّرَ اسمهُ أيضاً.
ومثلما مُحرَّم على الإنسان أن يتعامل مع العّرافين والمنجمين، هكذا لا يحق له أيضاً أن يلفظُ اسم الله في ممارسة السّحرِ أو الشعوذة، لأن الله وَعدَ شعبه بأن يكون معهم دوماً فلا مجال للتأثير عليه أو سحبه ليكون وِفق ما نتمنّاه، مثلما لا يحق لنا لفظ اسم الله عبثاً، بل نُصلّيه باحترام ومهابة: “ليتقدسِ اسمكَ” (متى 6: 9)، بمعنى أن ندع الله ليكون الله، من خلال رفع الصلاة إليه بعبارت الشكرِ والامتنان، وليُكرَز باسمهِ باحترام وتمجيد في العالم كلّه. كما لا يحقُّ أيضاً لنا استخدام اسم اللَّه لنهدئ به غضبنا أو انفعالاتنا الجنونية، إذ في ذلك احتقارٌ لاسم الله، وطريقٌ للتجديف، عبارتٌ مثلُ: “هل هناك عدالة … لا تُحدثني عن محبة الله … الله يخدعنا … لماذا يقسو الله عليَّ”، هذه كلها صور مزيفة عن الله، وتشويهٌ حقيقيٌ لاسمه، مثلما لا يحقُّ لنا أن نُكثِرَ من لفظ اسم الله من دون سبب، لنا أن نلفظه في كل سُلوكٍ يُشرِّفُ اسمه وهي مواقف تؤولُ لخلاص القريب. بعضنا لا يستطيع قول جملتين إلا وفيها اسم الله، وفينا مَن يُحاول التهرّب من المسؤولية من خلال عباراتٍ مثل: “الله كريم … إن شاء الله وسواها”، فلنتعلّم ألا نُسرِعَ في تلفظ اسم الله، وألاَّ نُقحِم اسم المسيح والله في أحاديثنا، فهذا يفتح الباب للشتائم والتجديف على اسمه القدوس.
القَسَم
القَسَم هو إعلان إستعداد الشخص لأن يقول الحقيقة التي هو ملمٌ بها بغيةَ إزالة كلِّ شكٍّ. ويمتاز القَسَم بالجرأة والأمانة والالتزام التام بصدقِ ما سيُقوله الشخص، أو ما سيعدُ به من التزام مسؤول، من أجل بلوغ الحقيقة والاستقامة والعدالة. وهنا، يدعو الإنسان الله، بكل جلالته ليكون سيّداً على فمه وحياته. وفي مقابل ذلك، لا يحقُ للإنسان أن يلفظ اسم الله في قسمٍ من أجل أمرٍ تافهٍ وكأن الله شرطيٌ يُرافقه حيثما ذهبَ، أو يتعمّد الشخص ذكرَ اسم الله ليُغطي كذبةً أو يُؤكد أمراً مشبوهاً.
من هنا، علّمنا ربّنا يسوع قائلاً: “أَيْضاً سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: “لاَ تَحْنَثْ، بَلْ أَوْفِ لِلرَّبِّ أَقْسَامَكَ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تَحْلِفُوا الْبَتَّةَ لاَ بِالسَّمَاءِ لأَنَّهَا كُرْسِيُّ الله وَلاَ بِالأرض لأَنَّهَا مَوْطِئُ قَدَمَيْهِ وَلاَ بِأُورُشَلِيمَ لأَنَّهَا مَدِينَةُ الْمَلِكِ الْعَظِيمِ. وَلاَ تَحْلِفْ بِرَأْسِكَ لأَنَّكَ لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَجْعَلَ شَعْرَةً وَاحِدَةً بَيْضَاءَ أَوْ سَوْدَاءَ. بَلْ لِيَكُنْ كَلاَمُكُمْ: نَعَمْ نَعَمْ لاَ لاَ. وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ مِنَ الشِّرِّير”ِ (متّى 5: 33- 37)، يطلب ربنا يسوع التوقف عند الـ “نعم” أو الـ “لا” ببساطتهم، ونتعلّم أن يكون كلامنا واضحاً وقوياً مؤهلاً لأن يُوثَقَ به في كل الحالات، من دون إلتماس ضمانات خارجية.
نتعلّم إذن، أن كل شيءٍ يجب أن يتوجّه نحو تحقيق إرادة الله: ليتقّدس اسمك، وتقديس اسمه يكون في تقديس الإنسان: صورته ومثاله، والمحافظة على سلامة حياته وكرامةِ عيشهِ وطهارة سمعتهِ والعيش إنساناً صالحاً يعمل الصلاح في حياته: “فَلْيُضِئْ نُورُكُمْ هَكَذَا قُدَّامَ النَّاسِ لِكَيْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ الْحَسَنَةَ وَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ.” (متّى 5: 16).
الكلمة الرابعة
“اُذْكُرْ يَوْمَ السَّبْتِ لِتُقَدِّسَهُ. سِتَّةَ أيَّامٍ تَعْمَلُ وَتَصْنَعُ جَمِيعَ عَمَلِكَ. وَأمَّا الْيَوْمُ السَّابِعُ فَفِيهِ سَبْتٌ لِلرَّبِّ إلَهِكَ. لا تَصْنَعْ عَمَلاً مَا أنْتَ وَابْنُكَ وَابْنَتُكَ وَعَبْدُكَ وَأمَتُكَ وَبَهِيمَتُكَ وَنَزِيلُكَ الَّذِي دَاخِلَ ابْوَابِكَ – لأنْ فِي سِتَّةِ أيَّامٍ صَنَعَ الرَّبُّ السَّمَاءَ وَالأرض وَالْبَحْرَ وَكُلَّ مَا فِيهَا، وَاسْتَرَاحَ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ. لِذَلِكَ بَارَكَ الرَّبُّ يَوْمَ السَّبْتِ وَقَدَّسَهُ” (خر 20: 8- 11).
قال الله في بدءِ هذه الوصية: “إذكر”، فقد سبقَ وخصّصَ السبت يوماً مُكرَّساً له عندما هّيأ للشعب المنَّ في البرية (خر 16)، فعادَ الآن وطلبَ منه أن يُقدِسَ يومَ السبت، وأعطى السبب لذلك، فهو الذي بدأ بتقديس هذا اليوم، فكلُّ مَن يُقدِّسُ يوم الربّ سيُعلن إيمانهُ بالله الخالِق ويكون تقديس يوم الرّب هو إعلان شهادة إيمان.
في “السبت” توقف عن مواصلة العمل، هو يوم راحة للجميع من دون استثناء وفي ذلك يُقدِّم الكتاب المُقدس بُشرى للإنسان، فالإنسان ليس عبداً يُستَهلَك في العمل، بل هو إنسانٌ حُرٌّ، هو الذي يُقرِّر متى يعمل ومتى يتوقّف عن العمل، لأن الإنسان الذي يعمل سبعة أيام هو عبدٌ للعمل، لذا، فيوم السبت هو يومٌ للراحةِ، ليس هذا فحسب، بل للتأمل في معنى عمل الأيام الستة التي مضت، والأهم من ذلك هو للقاءِ الله، فالعمل والمال والثروة ليسوا غايةً أو إلهاً يُعبَد ولن يكونوا، كما أن يوم السبت للاستراحة والتسلية، فكلّ أيام الأسبوع موجهة نحو يوم الرّب، والسبت مقدِّسُها، لذا، مَ ن لا يحفظ يوم الرّب، فهو يُسيءُ إلى فعل الله المُحرر، وينكر إيمانهُ بالله الرّب خالق السماء والأرض، الذي “رَأى الله كُلَّ مَا عَمِلَهُ فَإذَا هُوَ حَسَنٌ جِدّا. وَكَانَ مَسَاءٌ وَكَانَ صَبَاحٌ يَوْماً سَادِساً” (تك 1: 31). السبت إذن هو يوم الفرح ويوم احتجاج على عبودية العمل وعبادة المال.
الجميع يعلم أن هذا الإجراء لم يكن اختراعاً يهودياً، فلقد وُجِدَ هذا التقليد عند شعوبٍ مجاورة، وإن لم يكن بالصيغة التي نشأت وتطورت في اليهودية. فتوقيت اليوم، 24 ساعة، يتبع دوران الأرض حول نفسها، فيما يتبع توقيت الشهر دوران القمر حول الأرض، فقدّم الكاتب المُلهَم توقيت الأسبوع وتفرّد وتميّز في ذلك عن باقي الشعوب، وربطَ ذلك بذكرى الخلق، ليكون اليوم السابع “يوم احتفال الإنسانية كلّها بعيدِ الحُرية”، وهو دعوة للجميع للاحتفال، السيّد والعبد معاً، الإنسان والبهيمة، الأرض والأدوات، حتى النزيل (الضيف)، فيكون هدف السبتِ “تقديس الإنسان” من خلال التوقّفِ عن العمل تذكيراً بأن الزمن والحياة عطيتا الله الخالِق المُحرِّر، فيجب أن يعود كُلُّ شيءٍ للَّه، ويقف الجميع، أحراراً، يحتفلون بمعنى الحياة وبمعنى العمل، وتقودهم حريتهم هذه إلى الله، واهبِ الحياة والحرية معاً. فالله الذي قدّس اليوم السابع وجعله يوم احتفال، هوذا يُقدّمه لشريكه: الإنسان، المخلوق على صورته ومثاله (تك 1: 26- 27)
غاية يوم الرب إذن هي الاحتفال شاكرين بفعل التحرير والخلاص، ولن يكون مدعاة للبطالة أو للتسلية والمتعة. يُقدم ربنا بُشرى للإنسان الضعيف الذي يسهل إستغلاله، فيأمر رؤساه بضرورة إيقاف عمله، حاله حال كل إنسان، فيُحرّر السيّد من عبودية الطمع وجشع الإنتاج والأرباح، ويُحرر العبد والعامل من مظلومية العمل المُنهِك، وهكذا يُعطي الرب تعليمه للإنسان الواقعي والذي يكون في أحيانٍ كثيرة عُرضةً للاستغلال من قبل الآخرين، أرباب العمل، أو يكون هو نفسهُ مُدمناً على العمل. فيكون السبتُ للإنسان، وليس الإنسان للسبتِ، مؤكدين على كلمة: اُذكر، وفيها ومن خلالها نتذكّر أن الرب حررنا، وعلينا يقع واجب تقديم نعمة تحرير الآخرين كاستجابة مُحبّة للَّه المُحرِر.
السبت أم الأحد؟
اعتادت الجماعة المسيحية على الاجتماع يوم السبت للصلاة وكسر الخبز، مُتذكِّرةً أنها مدعوة للسهر مساء السبت في انتظارِ اليوم الأول من الأسبوع لتحتفل بذهاب النسوة إلى القبر حيث بُشِّرنَ بالقيامة (لو 24: 1)، والاحتفال بخبرة تلميذي عمّاوس (لو 24: 13- 30)، ومن هذا السهر برزت هوية جماعة يسوع الناصري، ليكون اليوم الأول الذي يلي يوم السبت: يوم الرب؛ الأحد، اليوم الذي يُذكرنا بالخَلق الأول، الخَلق الجديد الذي بدأ مع قيامة المسيح. فلم يكن للمسيحيين يوم عطلة وراحة كامل، إنما تعطيل مؤقت يكفي للصلاة والتعبّد، يبدأ مساء السبت بسهرة فرح مُقدسة وشركة وتأمل في كلام الرب ووليمته، حتّى وصلنا إلى القرن الرابع ليُعلن الامبراطور قسطنطين “الراحة الأحدية”، ليتفرّغ الجميع للعبادة والصلاة.
ومع انتشار المسيحية، ودخول الوثنيين فيها، صارَ لزاماً على الأساقفة والكهنة تخصيص يوم الرب للتنشئة المسيحية والرعوية، وصرنا نلحظ “تجربة تهويد الأحد” من خلال فرض إجراءات صارمة، تشبُّهاً باليهود الذين يحتفلون بيوم السبت، وكأن الأحد هو بديل السبت. وحاول أباء الكنيسة في مجمع أورليان الذي عُقد في 538 ميلادية إيقاف مثل هذه التشويه، فسمحوا ببعض الأعمال اليدوية، ومنعوا أعمال الحراثة أو العمل في الكرم أو الحصاد أو تجفيف المحاصيل … ليتفرّغ الإنسان للصلاة.
اليوم ما زالت الكنيسة تُشدِد على أن الغاية من يوم الأحد تكمنُ في تشجيع المؤمنين على التجمع للصلاة شاكرين الله على نعمةِ الحياة ونعمة الأصدقاء والعائلة، وكل عمل يقف عائقاً أمام تحقيق هذه الغاية يُعد عملاً محظوراً. فلا مجال للأعمال المهنية التي تتطلَّبُ وقتاً وجهداً، يحرم الناس من تأدية العبادة الواجبة للَّه، ويُعرقل إتمام الواجبات العائلية، أو تحقيق توازنٍ شخصي وأخلاقي للإنسان. هكذا، يتمحوَر كلّ شيءٍ حول “الاحتفال الجماعي بسرِّ المسيح الخلاصي وقيامته، حيث نستمدُّ منه القوّة والفرح بانتظار عودته ليُدخلنا إلى راحة الآب، فالمُشاركة في الإفخارستيا أيام الآحاد والأعياد، (أو عشيّة الأحد أو العيد)، هي شهادةٌ على الانتماء إلى المسيح والكنيسة والأمانة له.
التعليم الأخلاقي للوصيتين الثالثة والرابعة
يطلب الله من الشعب أن لا يحملوا اسمه باطلاً، فلا يُلفظوا اسم الله مترافقاً مع ما كان زوراً، أو مُكراً، أو كذباً، أو بغرض اللّهو، أو التجديف، أو لشكاياتٍ باطلة، أو في نفاق وثرثرة. ولا يحقُّ لهم أن يلفظوا اسم الله ليلعنوا إنساناً يُخالفهم سلوكيات الحياة، لأن الله ليس حجراً نرجُم به هذا وذاك من الناس. ومثلما سنعمل على تقديس اسم الله، علينا في الوقت نفسه المحافظة على اسم القريب وسمعته، فهو مثلنا، مخلوق على صورة الله ومثاله، وهذا الذي يطلب منّا أن لا نحمل اسم الإنسان باطلاً.
غاية يوم الرب هي تقديس الزمن الذي وهبه الله لنا لنعبده بالحق، فنحتفِل شاكرين له فعل التحرير والخلاص، ولن يكون يوم الرّبِ مدعاةً للبطالة أو للتسلية وطلبُ المتعة والعبث، بل يُقدم ربنا بُشرى للإنسان الضعيف الذي يسهل استغلاله، فيأمر رؤساءه بضرورة إيقاف عمله، حاله حال أي إنسان، فيُحرّر السيّد من عبودية الطمع وجشع الإنتاج والأرباح، ويُحرّر العبد والعامل من مظلومية العمل المُنهِك، فيكون السبتُ للإنسان، وليس الإنسان للسبتِ، وتكون المُشاركة في الإفخارستيا يوم الأحد شهادة إيمان.
محاضرات في العهد القديم (سفر الخروج)
“فَأجْعَلَكَ أُمَّةً عَظِيمَةً وَأُبَارِكَكَ وَأُعَظِّمَ اسمكَ وَتَكُونَ بَرَكَةً” (تك 12: 2)
اللّقاء الثامن عشر
المُقدمة
أُعطينا إذن عشرَ كلمات تحمل كلٌّ منها بُشرى للإنسان الذي ارتبطَ بعهدٍ مع الله. الأرض التي نمت فيها هذه الوصايا (الكلمات) هي “أرض الحُرية”، بُعيدَ التحرّر من عبودية مصر، والزمن هو “زمنُ العهدِ” الذي بادرَ الله بإقامته معنا، والذي طلبَ من الإنسان أن يحذر من التعبّد لآلهةٍ أخرى: “لا يكن لكَ إلهٌ غيري”، وهو تحدٍ خطير يُباغتُ الإنسان، فحتى في وقت الاستعداد لقبول الوصايا، حادَ الشّعب ليعبدَ العِجل الذهبي. لذا، تأتي وصيّة الله (أنا هو إلهكَ المُحرر لا يكن لكَ إلهٌ غيري)، كصوتٍ مُنبهٍ لمواجهة تحدي التوثّن الذي يستعبدُ الإنسان.
فلكي تبقى حُرّاً يا إنسان، يلزمُكَ أن تتعلّم السير أمامي متواضعاً، فلا تحاول الإمساكَ بي وكأني تحت تصرّفكَ. لن أسمحَ لك بأن تُكوِّن شكلاً عني أو ترسم لي صورةً لأكونَ في قبضتِكَ. أنا، إلهُكَ الذي حرَّركَ من مصرَ العبودية، وأنا حُرٌ من منحوتاتكَ، ومن تماثيلكَ ومن صوركَ، ومن مفاهيمِكَ عنّي، وأريد أن اُحرَّركَ منها لكيلا تَحيد عني وتتشبّث بها وتنساني، فلي صورة ومثال واحد هو: أنت يا إنسان والقريب والغريب والعدو، وأُريدُ منك أيضاً يا إنسان، أن تحترم اسمي، فلا تحمله ليكون سيفاً على رقاب الآخرين، ولا تستخدمه في غير محلهِ، ولا تفترض أني سأقوم بأيّ عملٍ تُريده أنتَ.
أوصيكَ يا إنسان بأن تكون أمامي حُرّاً، ولو ليوم واحدٍ في الأسبوع. يومٌ واحدٌ يتساوى فيه الجميع أمامي، فيتوقّف الجميع عن العمل، ليتأمل شاكراً فيما أعطيتُ لهم، الحياة والحُرية، فراحةُ يوم السبت هي لمُباركة الخليقة كلّها التي قدّمتُها لكَ حَسَنَةً جداً لتبقيها حسنة وتنميّها، وتكون مثلي؛ تعرِف أن ترتاح وتحتفل بما أنجزتَ.
حتّى الآن، تعرّفنا على هويّة إلهنا وما يُريده منّا تجاهه، والآن، سيُعرّفنا كيف يمكن لنا أن نُحقِّق هذه الهوية ونشهد لها في حياتنا مع القريب، وأولُ قريبٍ لنا هما والدينا اللذان تعاونا معه (اللّه) في أن يهبانا لنا الحياة الجسدية ويحرصا على أن ننمو في القامة والحكمة أمام الله وأمام الناس.
الكلمة الخامسة
“أكْرِمْ أبَاكَ وَأمَّكَ لِتَطُولَ أيَّامُكَ عَلَى الأرض الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إلَهُكَ” (خر 20: 12). الانتقالة من الحديث عن العلاقة مع الله إلى العلاقة مع القريب جاءت من خلال وصيّة إكرامِ الأب والأم، وجاءت هذه مثلُ سابقتها بصيغة إيجابية، بل فيها وعدٌ بمُجازاة بخيرٍ وصلاح. كل الوصايا تقول لنا ما لا يجب أن نفعله، إلاّ هاتان الوصيتان، اُذكرِ السبت وأكرِم الوالدين، فيعترف الإنسان في يوم الرّب بالخالِق ويُعامِل العبيد والحيوانات والغرباء باحترام، ويُكرِمُ الوالدِين ليضمن سلامة حياة المجتمع البشري كلِّه، عندما يحترِم تراتبيّة السلطات: الله – الوالدين – الأطفال، ولكن يبقى الله هو الأوحد ذو السلطان الذي يخضع لها الجميع.
باركَ الله أبوينا آدم وحواء بأن جعلهما على صورته كمثاله قائلاً: “أَثْمِرُوا وَاكْثُرُوا وَامْلاوا الأرض وَأخْضِعُوهَا” (تك 1: 28)، هذه البركة أعطت للوالدين مهمّة “إعطاء الحياة” على مثال الله. لولا والدونا لكُنّا في عِداد العدم الأبدي. الأب والأم هما آنية حُبِّ الله للخليقة، لذا، وَجَبَ أن يُكرَّما دوماً، بمعنى أن يُعطى لهما ما يستحقّان من الاحترام، كونهما شريكين في عمل الخلقة وديمومتها، وهو إكرام حصريّ، فلم يُطالبِ الله الإنسانَ بإكرام سلطةٍ أو إنسانٍ أو شيءٍ آخر على الأرض، إلاَّ الوالدين.
والدانا هما علّة وجودنا، فنحن موجودون بسبب قرارهما في أن نكون، فأعطيانا الحياة هبةً من دون أن نطلبها، لذا، يجب أن يجدا لدينا الاحترام اللائق بهما، فهما أول “قريبٍ” نتعلّق به، فنُحسنُ إليه، وهكذا، ومن خلالهما، ننتقل إلى الحديث عن العلاقة مع القريب.
والدانا إذن، يُمثلان صورة الله في ثلاثة أوجه:
- كونهما بشر خُلِقا على صورة الله.
- رَبَطَهما الله بالزواج فأصبحا ثالوثاً كلّما أعطيا الحياة لطفلٍ.
- يُشاركان الخالق في قدرة إعطاء الحياة.
بذلك تكون مهمّة الأب والأم في غاية الشرف ويحملان مسؤولية كبيرة: إيلاد البنين وتنشئتهم أحراراً أمام الله، من خلال محبتهما الثابتة وحرصهما المسؤول وتشجيعهما المتواصل والرعاية الأمينة لأولادهما ليكبروا وينضجوا ويتمكّنوا من اختيار السلوكيات الصالحة ليكونوا هم بدورهم: أباً وأماً على مثال صورة الله، فلا يجوز أن يبخل الإنسان بشيءٍ عليهما عندما يكونان هما في عوزٍ إليه، ومن هنا، جاء انتقاد ربّنا يسوع للفريسيين لأنهم يُلّون للشخص ألاّ يُقدِم العون إلى أبيه وأمّه إذا عزَمَ أن يُخصِّصه للهيكل قُرباناً، فيرفضون وصيّة الله ليحفظوا تقليدهم (مر 7: 9- 12)، فمُساعدة القريب واجبةٌ، لا سيّما الوالدَين وهما الأهم: “فَلَوْ عَلِمْتُمْ مَا هُوَ: إِنِّي أُرِيدُ رَحْمَةً لاَ ذَبِيحَةً” (مـتّى 12: 7).
كانت على الأب مسؤولية أن يحتفل بالعشاء الفصحي فيترأس الاحتفال كلّه، كما أنه مسؤول عن تعليم أبنائه قصة الله مع شعبه وكيف حرّرهم من عبودية مصرَ، فيُجيبُ عن أسئلة الأطفال ويُذكّرهم بما أنعمَ الله به عليهم، هو الأب والمُعلِّم. وبخلاف المُجتمعات الشرقية آنذاك والتي كانت تُعطي للرجل كلّ الحقوق ليكون صاحب السلطة المُطلقة على البيت، تأخذ الأم هنا أيضاً مكانةً مُساويةً لمكانة الأب فتقول الكلمة: أكرم أباكَ وأُمّك، وعادَ سفر الأحبار ليؤكّد على حقيقة المساواة هذه بقوله: “قُلْ لِكُلِّ جَمَاعَةِ بَنِي إسْرَائِيلَ: تَكُونُونَ قِدِّيسِينَ لأنِّي قُدُّوسٌ الرَّبُّ إلَهُكُمْ. تَهَابُونَ كُلُّ إنْسَانٍ أمَّهُ وَأبَاهُ وَتَحْفَظُونَ سُبُوتِي. أنَا الرَّبُّ إلَهُكُمْ” (أح 19: 2- 3).
اِختارَ إلهنا أن يتقرّب إلينا من خلال الوالدِين، فعلى الإنسان أن يُحسِنَ إكرامهم، يُعطيهم ما يستحقون من إجلال وتوقير، وأن يُحسِن الإصغاء إلى ما يُريده الله من خلالهم، لأنهم هم كانوا، ويبقون، أولَ مَن سمعَ الله، وواصلَ الإصغاء إليه، عرفوا كيف يخدموننا، فصاروا حُكماء. فعلى الوالدِين تقع مسؤولية إيلاد الأولاد للحياة وترتبيتهم، وزرعُ بذرة الإيمان في قلوبهم ورعايتها، وتعليمهم معنى الأعياد والتقاليد والأعراف، وقراءة الكتاب المُقدس أمام أبنائهم، مثلما كانت تفعل أُمنّا مريم ويوسف: “وَكَانَ أَبَوَاهُ يَذْهَبَانِ كُلَّ سَنَةٍ إِلَى أُورُشَلِيمَ فِي عِيدِ الْفِصْحِ. وَلَمَّا كَانَتْ لَهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً صَعِدُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ كَعَادَةِ الْعِيدِ” (لو 2: 41- 42)، والأهم أن يتعلّم الأبناء معنى وخبرة: أُبوّة الله وأُمومته (محبته ورعايته). على الأب والأُم أن يكونا صالحَين أمام الله وأمام الناس وفي العائلة حتّى يُقدِّما للَّه وللمجتمع أبناءً صالحين، ويحرصا على أن يكون لحضورهما سلطةٌ في البيت، فهما ليسا صديقين أبنائهما، بل هما والداهما اللذين ينتظران من الأبناء الخضوع لهما قبل سن البلوغ: “ثُمَّ نَزَلَ مَعَهُمَا وَجَاءَ إِلَى النَّاصِرَةِ وَكَانَ خَاضِعاً لَهُمَا” (لو 2: 51).
أوصى الله إذن بإكرام الوالِدينَ وليس محبتهم، فمَن يُحبّ والديه ليس بحاجة إلى التذكير بذلك، ومَن قرَّر القطيعة معهما لسببٍ ما لن يتقبّل وصيّةً كهذه. هناك أشخاص مجروحون بسبب والديهِم الذين لم يُقدّموا شهادة صادقة لأُبوّة وأُمومةٍ مسؤولة، فصنعوا الشرّ وصار من الصعب التواصل معهم وتقديم والطاعة لهم. كما أنَّ الله لم يوصِ الله بالطاعةِ المُطلقة لهم، فالجميع يُصغي إلى الله ويخضع له، وهي وصيّة مُلزِمةُ للجميع بدءاً من الوالدين، وقد يحصل أن يوجّه أبٌ، أو أمٌ، أو مُربون غير صالحين، أو سلطاتٌ، أبناءهم إلى ما هو غير مقبول أخلاقياً، عندها يجب عدم تباعةِ مثل هذه التوجيهات غير الصالحة، فالله أحقّ بالطاعة من الناس، مثلما أعلنَ بُطرس والرُسل (أع 5: 29).
كلمة مُحرِّرة
تُقدَم هذه الوصيّة بُشرى تحرّر عظيم، إذ تُحررُ الأب والأُم من وهمِ تملّكِ الأبناء على نحوٍ يُعيق نمّوهم أناساً صالحين. الأبناء هم عطيّةٌ من الله وهو ما حرَصَ الكاتبُ المُلهَم على التأكيد عليه من خلال قصّة ولادة إسحاق (تك 18: 10- 15)، وودلاة عيسو ويعقوب (تك 25: 21)، وعلى الوالدين أن يقبلا هذه العطيّة بمهابة ويُحسنا تربية أبنائهما وتعليمهم الإيمان القويم. الأُبوّة والأُمومة تعظمُان كلّما أُعطيت بمحبة في حيّز كافٍ من الحرية يسمح للأبناء بتعلّم الاختيار الصحيح، وقد لا ينجح الأبوان في ذلك بدافعِ المحبّة التي فيهما للأبناء، إلا أنهما لا ييأسان مُطلقاً، على مثال الله الخالق، لنتأمل قصة “الابن الضال”، حزنَ الأب لسلوكِ ابنه، إلا إنه لم يفقد الأمل ولم ييأس أبداً من عودته (لو 15: 11- 32).
وهي كلمة مُحرِّرة للأبناء، لأن إكرام الأب والأم يخلق وعياً لدى الأبناء ليدركوا أن العالم بدأ قبل أن يكونوا، فليسوا هم بدءَ العالم، ولن يكونوا خاتمتهُ. هم بشر حُملوا بين أذرع والديهم قبل أن تطأ أقدامهم الأرض فكيف لهم أن يتكبروا على الآخرين. هم ليسوا سادة حياتهم، فالحياة أُعطيت لهم، ويحسن بهم عيشها على نحوٍ صالحٍ لكي يُباركهم كلّ مَن يتعامل مع أبناءهم، ويُبارِك والديهم أيضاً: “طُوبَى لِلْبَطْنِ الَّذِي حَمَلَكَ وَالثَّدْيَيْنِ اللَّذَيْنِ رَضَعْتَهُمَا”. أَمَّا هُوَ فَقَالَ: “بَلْ طُوبَى لِلَّذِينَ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ الله وَيَحْفَظُونَهُ” (لو 11: 27 – 28)، فإكرام الوالدين لا يكون من خلال احترامهم والإحسان إليهم فحسب، بل في أن تعيشَ إنساناً صالحاً، ثمرةَ تربيةٍ صالحةٍ من والدين صالحين.
عالمنا اليوم فقدَ حسَّ التواصل، لأنه عالمٌ ينشدُ الاستقلالية الفردية عن كلّ سلطةٍ، وفي سعيه تبعثرت أجزؤهُ، وتُعرَف حضارتنا بأنها حضارة مُتشظية، وهي بحاجة لأن تُجمَع ويُعاد تركيبُها ثانية، وإلى أن تُحرَّر من سطوتها ونُشدانها الاستقلالية في غير محلّها. فإن هذه الكلمة “أكرم أباكَ وأمّك”، تبقى وصيّة تجمع هذا التشظي، وتُعيد بناء مُجتمعنا من جديد، عبر إعادة ربط الأجيال ببعضها بعضاً، وتُذكّرنا بالحُكماء الذين سبقونا في الحياة، وتسألنا أن نكون حُكماء للذين يأتون بعدنا. من هنا جاء قول المُعلمين: “عندما يموت الحكيم، فالعالم كلّه يندب ويلبس ثوبَ الحزنِ”. نحن نواصل العيش بفضلِ أولئكَ الذين سبقونا وعلّمونا كيف تُعاش الحياة وكيف نتخطّى تحدّياتها، وهذه نعمة كبيرة يجب أن تُوقَّر ويُعطى لها الإكرام الواجب، لا سيما وقت الشيخوخة والضعف والمرض والعوز، فكبارنا بحاجة إلى سندٍ ورعاية، رعاية تتجذر في الاحترام والمهابة، فعلى سبيل المثال، لابدّ أن يُدعَوا أباً وأماً وليس بإسمائهم، ولا أن نتحدّث عوض عنهم أو نجلس مكانهم حول مائدة الطعام أو في الأماكن المُخصصة لهم.
وأخيراً هي كلمة تُحرِّر الماضي من أن يموت، وكلمة تُحرِّر الحاضر ليبقى حيّاً للمستقبل، لأنها كلمة تجعلنا نُفكّر في مسؤوليتنا عنه منذ الآن. فكما أن حياة وقرارات ومواقف مَن سبقونا أثّرت علينا، سلباً وإيجاباً، كذلك ستُؤثّر حياتنا وقراراتنا ومواقفنا على الأجيال القادمة، فعلينا أن نُحسِن اختيار مواقفنا وسلوكياتنا، وإن اختارَ الأبناء دعوتهم في الحياة، على الوالدين احترام ذلك، ومُرافقتهم بمسؤولية عالية ليموا الأبناء في القامة والحكمة أمام الله والناس.
كلمة للبالغين
يعتقد بعضهم متوهماً أن هذه الوصيّة هي وصيّة موجّهة إلى الأطفال أو القاصرين، لذا، صار لزاماً أن نُعيد هذه الوصية إلى سياقها الصحيح، فهي وصيّة موجّهة إلى البالغين من الرجال والنساء الذين اختاروا حياتهم، وهم يقفون الآن أمام جيلٍ سبقهم، أمام حكمة مَن تقدموهم على الطريق.
لا تتحدّث الوصيّة عن واجبات الوالِدينَ وما عليهم أن يُقدموه، كما لا تُخبرنا عن كيفية ممارسة سلطتهم علينا، بل تُشير إلى ضرورة تقديم واجبِ الإكرام اللائق لهم، فتسألنا أن نُقدِّم الرعاية الواجبة للذين، وبسبب محبّتهم لنا، وبناءً على اختياراتهم صرنا ما نحنُ عليه الآن. لقد وقفنا على أرجلنا، واخترنا لحياتنا توجّهاتٍ خاصّة بنا لأنهم رفضوا أن يتملَّكونا لأنفسهم، وسمحوا لنا بمجال كافٍ لننمو ونكبر، بمحبة وحرص مسؤولَين، وأحبوننا على الرغم من أخطائنا، فصرنا بالغين أحراراً. وهذه هي نعمّة الأبوة والأمومة، التي منبعها: الله الخالق.
نحن لا نُكرِم والدِينا لأنهم كانوا “أباً وأُمّاً” كاملَين في كل شيءٍ، بل لأنهما عملا ما بوسعهِما لنكون ما نحن عليه اليوم، فصرنا مُستقّلين لا مُتّكلين، لذلك، يستحق كلّ أبٍ وأُمِّ منّا عبارات الشّكر التي تتجلى في مواقف بعينها عبر إظهار الاحترام اللائق لهم، لا سيما عندما يكبران ويشيخان أو يمرضان أو يكونان في عوزٍ. من هنا نفهم أن هذه الكلمة: أكرم أباكَ وأمّكَ” كلمة موجهةٌ إلى البالغين وتُريد أن تحمي الآباء والأمهات في شيخوختهم فلا يُهمَلون أو يُنبَذون أو يُهانونَ. لذا، قيلَ: أكرم، وليس أطِع، فالموقف المطلوب من الإنسان البالغ، الناضج، والذي عَرفَ كيف يختار حياته الصالحة، هو موقف المهابة والاحترام المُعبّر عنه بالوقار الذي يُقدمه الإنسان لأبويه.
كلمةٌ ووعدٌ
أخيراً، تأخذ الوصية كل حيويتها من تميّزها عن باقي الوصايا كونها تحمل وعداً ومكافأة: “لِتَطُولَ أيَّامُكَ عَلَى الأرض الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إلَهُكَ” (خر 20: 12). هذا الوعد ليس للأفراد، بل للشعب بأجمعهِ، لكي يدوم كشعبٍ اختيرَ لكي يحمل رسالةً للعالم، ولكي يكون نُوراً للأُمم. شعبٌ يُقدّر ويُكرِم الشيوخ، حُكماء مُجتمعهِ، فيحترِم ماضيهِ وحضارته وأخلاقياته. شعبٌ يُكرم التقليد المُتجسّم في الوالدين. شعبٌ يُعجبُ بالجذور التي رواها الله بيده، ورعاها في أرض طيّبة لتدوم وتُثمِر بعبارات الشّكر التي يُعلّمها الآباء للأبناء. نحن بحاجة إلى أجدادنا لنعرف أهمية ومكانة الجديد في حياتنا. فالمجتمع السليم هو المجتمع الذي يحترم الإيمان الذي قبله من والديه، لذا، عليه أن يُكرِم مؤسسة العائلة التي تحفظُ له كلَّ هذا، وأي تهديد لهذه المؤسسة سيؤول حتماً إلى تدمير حضارة الشعب وإيمانه وأخلاقياتهِ، كما يحصل في عالمنا اليوم.
أخيراً، الجماعة التي تُكرِم الوالدين ستكون أكثر حُرية إزاء غيرها التي تُريد الاستخفاف بمكانة العائلة لصالح مؤسسات الدولة، متناسية أنَّ هناك سلطة أعلى منها، الله، وهي ظاهرة اختبرتها البشرية عبر تاريخها وعانت من عاقبتها. حاول فرعون تقسيم العائلة، فسمحَ للرجال بالذهاب للتعبّد للَّه في البرية، وأكدَّ له موسى أن الجميع مدعوٌّ للتعبد ولا يُمكن أن يتركوا أحداً في مصر: “اذْهَبُوا اعْبُدُوا الرَّبَّ إلَهَكُمْ. وَلَكِنْ مَنْ وَمَنْ هُمُ الَّذِينَ يَذْهَبُونَ؟” فَقَالَ مُوسَى: “نَذْهَبُ بِفِتْيَانِنَا وَشُيُوخِنَا. نَذْهَبُ بِبَنِينَا وَبَنَاتِنَا بِغَنَمِنَا وَبَقَرِنَا. لانَّ لَنَا عِيدا لِلرَّبِّ”. فَقَالَ لَهُمَا: “يَكُونُ الرَّبُّ مَعَكُمْ هَكَذَا كَمَا أطْلِقُكُمْ وَأوْلادَكُمُ. اُنْظُرُوا إنَّ قُدَّامَ وُجُوهِكُمْ شَرّاً. لَيْسَ هَكَذَا. اِذْهَبُوا أنْتُمُ الرِّجَالَ وَاعْبُدُوا الرَّبَّ. لأنَّكُمْ لِهَذَا طَالِبُونَ”. فَطُرِدَا مِنْ لَدُنْ فِرْعَوْنَ” (خر 10: 8- 11).
اليوم، تشهد العائلة تحدّيات جمّة تُضعِفُ سُلطتها لصالح الدولة أو هيئات اجتماعية أخرى عِوضَ أن تكونَ عوناً لها في تحقيق رسالتها وتساندها في مواصلة مسيرتها بأمانٍ، ليكون البيت المدرسة الأولى التي يتعلّم فيها الإنسان احترام العلاقات الإنسانية، في جو من الحنان والمسامحة والأمانة والخدمة النزيهة والاحترام المتبادل بين الأشخاص، ليتربّى الأبناء على الفضائل وتحمّل المسؤوليات والنمو في القداسة، فالأسرة هي الخليّة الأصلية للحياة الاجتماعية والكنيسة المنزلية، كما يدعوها التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية (الفقرة 2204- 2207)، وتجب مساندتها للقيام بمهمّاتها.