أخبار عاجلة
الرئيسية / اخبار البطريركية / مريم عند آباء كنيسة المشرق: صورة كتابية متحركة بمسحة من الشعر والتصوف

مريم عند آباء كنيسة المشرق: صورة كتابية متحركة بمسحة من الشعر والتصوف

مريم عند آباء كنيسة المشرق  

صورة كتابية متحركة بمسحة من الشعر والتصوف

الكاردينال لويس روفائيل ساكو

يُعَدّ آباء الكنيسة Church Fathers – Patrology، من القرن الثاني الى القرن الثامن – التاسع، لاهوتيّي الكنيسة الرسميين. هؤلاء الآباء كان يسكنهم الله وهو من ألهَمهم في قصائدهم وتعليمهم. ما كتبوه نابع مما تغذوا به وعاشوه، لذا كان له تأثير بالغ في لاهوت الكنيسة وليتورجيتِها (طقوسها).

اهتم الآباء الأوائل باللاهوت من أجل التعليم المسيحي (تعليم الموعوظين)، بينما اهتم آباء القرون الخامس – السابع، بالروحانيات والزهد والتصوف لأن معظمهم كانوا ديريين، أما آباء القرن السابع – العاشر، فقد اهتموا بالليتورجيا والقوانين.

تحتل صورة مريم، هذه السيدة المختارة من الله، مكانة مرموقة في كتابات آباء كنيسة المشرق. الصورة التي يعكسونها “متحركة” لارتباطها بمحطات حياة يسوع المسيح ارتباطاً مصيرياً، لكنهم يصورونها واقفة دوماً الى جانبه في الحلو والمرّ بشجاعة ورجاء… الآباء عموماً يكتبون نصوصاً شعرية تخاطب قلوب مستمعيهم لان القُرّاء في زمانهم كانوا قِلّة، ولم يكتبوا نصوصاً منهجية فلسفية- لاهوتية منظمة، كما الحال لدى الآباء الغربيين. قصائدهم كانت تهدف الى إقامة علاقة تصوّفية مع الله والمسيح ومريم العذراء، وكانت عادة تُنشَد (خاصة غير الطويلة منها).

يشكل الكتاب المقدس خصوصاً الإنجيل القاعدة لهم للتعبير عن مفاهيم لاهوتية. كتاباتهم متوازنة، لا مغالاة ولا تقليل، بل يتكلمون عن مريم العذراء بكل وقار وخشوع وتقوى ويتوسعون في وصفها، لكن تبقى الشخصية المركزية في حياتها هو الله، مصدر قيمتها وتقديسها.

يمكننا اختصار ما قالوه بهذه العبارة: “مريم العذراء هي والدة المسيح، الرب المخَلّص. إنها بتول قبل الولادة وبعدها، وممتلئة نعمة، وامٌّ في غاية الحنان، وشفيعة فاعلة”.

بالنسبة الى اللاهوت المريمي، يتكلم آباء كنيسة المشرق بالإجماع عن أربع حقائق إيمانية: بتولية مريم، قداستها “ممتلئة نعمة”، امومتها، وشفاعتها.

  1. بتوليتهـا

البتولية في الكتاب المقدس، تعبير تقني أبعد من الإشارة المادية. البتولية تعني بَكارة (طهارة) القلب، أي لا يوجد فيها شيء نجس. ويرون أن أبلغ تعبير عن طهارتها هو قداستها. لذا نجد أن لقب القديسة مريم اكثر شيوعاً في كتاباتهم. يعنون بالقداسة أن القدوس يسكنها، وتعيش هذه العلاقة بروح جديدة وطاعة مطلقة له وحده.

من الناحية التاريخية طبَّق الآباء على خطى الإنجيلي متى، عبارة إشعيا النبي على العذراء مريم: “ها إِنَّ العذراء تَحمِلُ فتَلِدُ آبناً وتَدعو اسمَه عِمَّانوئيل” (إشعيا 7/ 14). هذه العبارة موجّهة بالأساس الى الملك آحاز لتطمينه ووضع كل ثقته بالله المخلّص أمام الخطر الداهم لبلاده، الذي يشكله الملك الآشوري سنحاريب في القرن الثامن قبل الميلاد. انه نص مسيحاني – سياسي. إشعيا يريد ان يقول لآحاز وبلاطه بان المسيح سوف يولد من عائلتك واُمتك بركة لئلا تهلكوا1. هذه النبوة هي مرتجى، ستتحقق واقعياً بولادة يسوع “الله يُخلّص”، يخلّص لأنه عِمَّانوئيل “الله معنا”. انه اسم نبويّ بامتياز. هذا ما يؤكده انجيل متى (1/ 23). هذا الوعد بــ “عِمَّانوئيل” تم في مريم المباركة التي شعّ منها نور خلاص البشر. هذه رؤية لمسيحانية جديدة خالية من الاعتبارات السياسية، كما يؤكد لوقا أيضاً في نص البشارة. وكلمة “عالما” بالعبرية تعني الصبية، أي عذراء parthenos، وفق ترجمة الكتاب المقدس الى اليونانية المعروفة بالسبعينية، إنها إشارة الى قدرة الله والطهارة. لذا قالت مريم (وهي ويوسف سليلا بيت داود كآحاز) للملاك: “اني لا اعرفُ رجلاً” (لوقا 1/ 34). نجد التركيز على شخص “عِمَّانوئيل” في نصّي إشعيا ومتى، الذي ينهي إنجيله أيضاً بعبارة” هاأنذا معكم – عِمَّانوئيل – الى منتهى الدهر” (28/ 20). كانت هذه دعوة للمسيحيين الأوائل، وهي كذلك لنا لكي نجدد باستمرار ثقتنا بالله المُخلّص.

يؤكد آباء الكنيسة بتولية مريم، أثناء الحَبَل والولادة وبعدها. مريم بكر في قلبها وجسدها.  البتولية مرتبطة بالقداسة. يقول مار افرام: “كانت مخطوبة حسبَ الطبيعةِ، قبلَ أن يأتيَ، وصارت حامِلاً، بخِلافِ الطبيعة، بعدَ أن أتيتَ، أيّها القدّوس، ومَكثَتْ بتولاً، إذ وَلدَتكَ بالقداسة” (أناشيد الميلاد 11/ 3). ويذكر نرساي: “وتجسَّد بقوة الروح القدس في هيكل إبنة داود وصار انساناً.. وحُبِل بجسده في هيكل مريم من دون زواج وولد بخلاف القواعد البشرية” (ميمر17/ 66 – 68). لقد خصصت كنيسة المشرق عيداً للعذراء يلي عيد الميلاد، هو عيد تهنئتها، كما هي العادة في الشرق حيث تُقدم التهاني لكل أمٍ تنجبُ طفلاً.

  1. ممتلئة نعمة

لا يحيا الإنسان بذاته، بل بنعمة من الله. “تُرسِلُ رُوحَكَ فيُخلَقون وتُجَدِّدُ وَجهَ الأَرض” (المزمور 104/ 30)، أي زوّدها الله بما تحتاجه من نِعم لذلك اعتبروها “خيمة العهد” و”بيت المَقدِس” حيت تتجلى فيها قداسة الله.

هذه النعمة مستمدة من إتحادها بابنها. يقول نرساي: “ممتلئة نعمة لأنه [المسيح] حالٌّ في قلبها” (2ص 270). ويؤكد قورللونا (القرن الرابع) أن: “حواء سقطت ومريم لم تسقط بارادتها”2.

هكذا تغدو مريم نموذجاً للمؤمن المنفتح بتواضع على نِعم الله. يقول افراهاط الحكيم: “مريم في تواضعها وبساطتها استقبلت يسوع” (9/ 5)، وهي صورة للكنيسة أيضاً (افرام – نرساي).

  1. الامومة الشاملة

لقد شبَّه الآباء مريم بحواء الجديدة (أفرام، نرساي)، إنها اُم البشرية الجديدة التي بكرها ورأسها المسيح: “من حضنٍ بتوليٍّ، كمِن صخرةٍ، نبَتَ زرعٌ، منه كانتِ الغَلّات” (أناشيد الميلاد 4/ 85) و “من أعطى المُعوِزّة إن تحبَلَ وتَلِدَ واحداً كثيراً(أناشيد الميلاد 5/ 19). ونرساي: “حملت في رحمها جنسنا البشري بكامله كأنما في باخرة، وقادته الى الميناء الذي هو ملكوت الله” (مخطوطة بورجيا السريانية 83، 39/ 1)، فمريم هي بالتالي اُم الكنيسة.

  1. الشفاعة

يركز الآباء على قدرة مريم في التشفع من أجلنا. يقول مار أفرام: “والنساء يشكرن مريم أمهن على المجد المُعطى لهن بواسطتها” (أناشيد الميلاد 22/ 23). ونرساي: “بابنة جنسنا نُبعث الى الحياة بلا قياس فلا تميتنا بعد ما حيينا بحياة منكِ” (47/ 220).

من القابها: البتول، الطوباوية، اُم المسيح، اُم المخلِّص، اُم البشرية الجديدة، الخادمة، إبنة داود، السماء الثانية، حواء الثانية، تابوت العهد، العروس، المباركة، المُكرَّمة، الملكة، بنت صهيون. أمّا لقب “ام الله – Theotokos، كما يجمع عليه ذوو الاختصاص، لم يرد عندهم ولا حتى عند مار أفرام بصحيح العبارة، لأنها لم تكن رائجة في عهده، بل نجد عنده اُم المسيح ابن الله. لقب اُم الله اعتمده مجمع أفسس 431. وعندما اتحد “الكلدان” بالكنيسة الكاثوليكية بدَّلوا عبارة “اُم المسيح” بعبارة “اُم الله”. وهناك القاب اُخرى مركّبة خصوصاً عند مار أفرام مثل: علّيقة موسى، جنة عدن، سلَّم يعقوب الخ..

________________

1. متى هنري، التفسير الكامل للكتاب المقدس، الجزء الأول، القاهرة 2011 ص 31.

2. ORTIZ DE URBINA, La, Mariologia nei padri siriaci, in OCP, 100-113

عن patriarchate

شاهد أيضاً

مسيحيو الشرق “كنز” ينبغي المحافظة عليهم

مسيحيو الشرق “كنز” ينبغي المحافظة عليهم في ضوء الجمعيّة السينودسيّة القاريّة للكنائس الشرقيّة الكاثوليكيّة 12-18 …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.